نحن والخارج: مقارنة

فؤاد مطران

يصرّ معتنقو شعار "كلّن يعني كلّن"على حشر جميع الأحزاب التقليديّة بخانة واحدة كأنّ المقولة نظريّة رياضيّة تسقط كليًّا إن لم تصحّ دومًا. ومنذ أن ظَهَر الشّعار في خطابنا السّياسي، يرفض القائلون به الإعتراف باختلافات موضوعيّة واضحة بين أحزاب لبنان. من يسمعهم يكاد يظنّ أنّ حزب الأحرار مثلًا مسؤول عن أزمتنا الحاليّة بقدر مسؤولية حزب الله؛ وأيّ قولٍ آخر يقابَل بالرّجم فوراً.

المشكلة هنا لا تقتصر على تضييع المسؤوليّات فقط، بل تمنع أصحاب هذا الشعار من فهم بديهيّات الواقع السياسي كون "شغلهم الشاغل" هو البحث عن كيفيّة وضع الجميع في خانة واحدة، وإلّا سقطت الأيديولوجيا، ومعها علّة وجودهم.

يكمن واحد من أبرز جوانب اللّغط هنا بالحديث عن علاقات الأحزاب مع الدّول الخارجيّة، خصوصًا لدى الإضاءة على خطورة الارتباط بين حزب الله وإيران، ليأتي الرد المعلّب والجاهز: "كلّن يعني كلّن" لديهم علاقات مع الخارج. ومع الإقرار طبعًا أنّ العلاقات العابرة للحدود لم تبدأ مع حزب اللّه، ولا تقتصر عليه، يبقى أنّ منطق "كلّن يعني كلّن" يجانب الصّواب في هذه المسألة، كما في المسائل الأخرى. فكّر، مثلا، بعلاقات مختلف اللّاعبين المسيحيّين مع الخارج، في العقود الأخيرة. في مطلع الحرب اللّبنانيّة عام 1975، التقت أحزاب الجبهة اللّبنانيّة تكتيّا مع نظام الأسد على خلفيّة المواجهة المريرة آنذاك مع القوى الفلسطينيّة. ولكنّ علاقة الأسد نفسه والفلسطينيّين تغيّرت بعد إتفاقيّة كامب دايفيد عام 1978، كما تبرّم المسيحيّيون بسرعة من الوجود السوري في لبنان، فتحوّل التلاقي العابر مع الأسد الى عداوة شديدة، وظهر عندها الخيار الإسرائيلي كبديل عن التلاقي مع الأسد. ومع استشهاد بشير الجميّل، ووراثة أخيه أمين لدوره، صعد الرهان على الدور الأميركي، وفترت العلاقات بين الشّرقيّة آنذاك وإسرائيل. بالمقابل، تحسنّت علاقات الشّرقيّة مع عراق صدّام حسين، خصوصًا في النّصف الثّاني من الثّمانينات. ولعلّ علاقة ميشال عون بالنّظام السّوري خير تكثيف لكلّ هذه الديناميكيّات المتقلّبة: العقيد ميشال عون كان قريبًا من بشير الجميّل أي أنّه كان خصمًا للسوريّين؛ ولكنّه كقائد جيش يصبو لرئاسة الجمهوريّة مدّ خطوط تواصل معهم (تجدر هنا مراجعة كتب فايز قزّي، صديق ميشال عون آنذاك، ورسوله إلى حافظ الأسد)؛ ثمّ أعلن عون كرئيس حكومة انتقاليّة حرب التّحرير ضدّ النظام السوري؛ ليعود من باريس بعد عام 2005 للتحالف مع نظامٍ نفاه إليها.

ما أحاول قوله هو ما يلي: هذه العلاقات لم تكن يومًا إيدولوجيّة. ومع الإعتراض السّيادي المبدئي على أيّ تواصل عابر للحدود، يبقى أنّ علاقات الأطراف المذكورة أعلاه مع الخارج كانت قابلة للتحوّل السريع بحسب المصالح المتحرّكة، ورهانات القوى المحليّة، وحسابات السلطة. حتّى العلاقة مع فرنسا كانت قابلة للمدّ والجزر، وهي لا تزال كذلك إلى اليوم.

بالمقابل، محال تمامًا وضع علاقة حزب الله بإيران في الخانة عينها. فالعلاقة بين نظام الملالي وذراعه المحليّة عضويّة، لا بل يمكن اعتبارهما كيانًا واحدًا لا يعترف بجغرافية الدّول وحدودها. فلا أحد يتوقع أن يختلف الطّرفان مثلًا بسبب تضارب المصالح، كما لا يوجد قوّة لبنانيّة شاركت بحروب في الخارج لصالح دول أخرى بقدر ما فعل حزب اللّه. ولعلّ الأخير يرى أنّ المعارك الّتي يشارك بها في الخارج هي حروبه بقدر ما هي حروب إيران. هذه النقطة بالتحديد غير مسبوقة في سياسة لبنان. حتّى القوى الّتي طالبت سابقًا بالاتّحاد مع دول مجاورة، لم تربطها بها علاقات مماثلة بتلك التي تجمع حزب الله وإيران.

تاليًا، وبالإذن من إيديولوجيّي "كلّن يعني كلّن"، التّعميم غير مقنع. تكرارًا: كلّ هذه العلاقات مرفوضة مبدئيًّا، سواء كانت تكتيّة أو إيديولوجيّة، لأنّها تتعارض مع سيادة الدّولة اللّبنانيّة، ومع الحياد الضّروري للبنان، فضلًا عن أنّها تساهم مباشرةً باستقطاب العلاقات بين الطّوائف عندنا. يبقى أنّ شيئًا لا يمنع من فهم طبيعة هذه العلاقات. ويبقى أيضًا أنّ "كلّن يعني كلّن" لا يساعد على ذلك.