عن "ساغا" جنبلاط والحزب

رئيس التقدّمي وليد جنبلاط يتهّم حزب اللّه بأنّه "خرب بيوت اللبنانيّين"؛ يردّ عليه المفتي أحمد قبلان بأنّ من "خرب بيوت اللبنانيّين هو من هجّر وقاد مجموعات الذّبح والهدم والتطهير الطائفي"؛ ليعود جنبلاط ويؤكّد أنّه لا يريد الانضام إلى جبهة سياسيّة ضد حزب الله. تختصر آخر جولة قصف كلامي متبادل بين جنبلاط وحزب اللّه (عبر قبلان) سنوات من التوتّر المضبوط بينهما: لا يهضم الاوّل سياسات الثاني، ولا يستطيع تحمّل أعباء مواجهة جديدة معه. قلب جنبلاط ضدّ الحزب، وعقله منتبه إلى كلفه العداء معه، والكراهية بين الطرفين ثابتة ومعلنة ومتبادلة.

لسنوات في ظلّ الاحتلال السوري للبنان، لم تشهد العلاقة بين جنبلاط والحزب أيّ توتّر يُذكر، خصوصًا وأنّ الأحزاب المتعاملة مع دمشق آنذاك نظمّت علاقاتها تحت العين الساهرة لحافظ الأسد، والمخابرات السوريّة في عنجر. ولكنّ الخيارات افترقت بعد أن طالب جنبلاط عام 2000 بإعادة انتشار الجيش السوري في لبنان، وبعد أن أبدى انفتاحًا على المعقل السّيادي اللّبناني في بكركي. في أيلول من العام 2000، أطلق البطريرك الماروني الراحل مار نصر الله صفير صفّارة المواجهة مع الاحتلال إثر بيان مجلس المطارنة الموارنة الشهير. لعلّ دمشق توقّعت أن ينضمّ جنبلاط إلى صفوف الأبواق المعادية لصفير، ولكنّ زعيم الإشتراكي خذلها. كاد مروان حمادة يدفع حياته ثمنًا للمتغيّرات إثر محاولة اغتياله عام 2004.

وبعد اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري عام 2005، صار وليد جنبلاط رأس حربة 14 آذار، وقاد وحيدًا المواجهة مع نظام الأسد لفترة. ومع ذلك، حاول رئيس الإشتراكي احتواء حزب اللّه وحركة أمل، فهندس الاتّفاق الرباعي الّذي أخرج الثنائي من عزلته في انتخابات العام 2005. بدا لمعظم المسيحيّين الخارجين آنذاك من 15 عامًا عقابًا سوريًّا جماعيًّا لهم أنّ الاشتراكي، والمستقبل، وأمل، وحزب اللّه، يسعون لترسيخ توازات الزمن السوري ولو بعد أفوله، فجاء الردّ عبر تسونامي التصويت لتيّار العماد ميشال عون. يومها، تلقّت 14 آذار صفعة مزدوجة: من جهة، اهتزّ رموزها المسيحيّون أمام الموجة العونيّة؛ ومن جهة ثانية، وقفت قواها تتفرّج بينما سحق الثنائي الشيعي قوى الإعتراض بالطائفة، وصار سهلًا على حزب اللّه والحركة التلويح بورقة الميثاقيّة كلّما قرّرا تعطيل الحياة السياسيّة في لبنان.

بعد حرب تمّوز 2006 بين إسرائيل وحزب اللّه، والّتي أدّت إلى سقوط مئات الضّحايا وكلّفت لبنان مليارات الدولارات من الخسائر، لام جنبلاط زعيم حزب اللّه حسن نصرالله لتفرّده باتّخاذ قرار الحرب، فتوتّرت العلاقات بين الطّرفين مجدّدًا. وفي أيّار 2008، شنّ الحزب هجومًا على بيروت وبعض مناطق الجبل إثر صدور قرارين من مجلس الوزراء بمصادرة شبكة الإتصالات التابعة لسلاح الإشارة الخاص بحزب الله، وإقالة قائد جهاز أمن مطار رفيق الحريري بيروت الدولي العميد وفيق شقير. واجه رجال جنبلاط مقاتلي الحزب بشجاعة ولكنّ المعركة لم تكن متكافئة. تسوية الدّوحة الّتي تلت افتتحت عهد سيطرة حزب اللّه على القرار في بيروت؛ كما دفعت التّوازنات الجديدة وليد جنبلاط للانسحاب من تحالف 14 آذار، والعودة لزيارة بشّار الأسد في دمشق بعد سنوات من القطيعة، وبحماية حزب اللّه. وفي واحدة من استداراته الشهيرة، اعتبر جنبلاط أنّ التقاطع السياسي بينه وبين الإدارة الاميركية خلال المرحلة التي تلت اغتيال رفيق الحريري "نقطة سوداء في تاريخ الحزب الاشتراكي."

هل توقّع جنبلاط آنذاك أن تعود العلاقة بينه والحزب ودمشق إلى ما كانت عليه، وكأنّ حقبة 14 آذار لم تكن؟ ربّما. ولكنّ هذا لم يحصل. وعمومًا، حافظ جنبلاط منذ ذلك الوقت على تواصل معقول مع تيّار المستقبل من جهة، ومع حركة أمل من جهة أخرى، إلّا أنّه تجنّب التّموضع في حلف محدّد. تواصل جنبلاط مع القوّات اللبنانيّة بقي انتخابيًا وباردًا، وهناك من يقول أنّ جنبلاط لم يتجاوز إلى اليوم الرّواسب النفسيّة لحرب الجبل. الأكيد عمومًا أنّ خصم جنبلاط الأساسي هو حزب اللّه، وأنّ الأخير يشاغل رئيس الإشتراكي في عقر داره عبر دعم منافسَيه الدرزيَّين طلال إرسلان ووئام وهّاب. قبل عقود، وصف الباحث الفرنسي الشهير ريمون آرون الحرب الباردة بأنّها مستمرّة وفق قاعدة "سلام مستحيل، وحرب مستبعدة"

(Paix impossible, guerre improbable). لعلّ المعادلة نفسها تصلح لتوصيف العلاقة المعقّدة بين جنبلاط وحزب اللّه.