لا تتحمّسوا للإنتخابات

فؤاد مطران

"الإنتخابات النيابيّة"... شعارٌ قد يكون الوحيد الّذي يتّفق عليه السّواد الأعظم من القوى المعارِضة والتغييريّة في لبنان، من أقصى يسارها إلى أقصى يمينها، كحلّ "خلاصيّ"، "لا بديل عنه" إذا أراد الشعب اللّبناني الخروج من أزمته. وبالرّغم من عدم وجود خارطة طريق واضحة تتضمّن أجوبة صريحة حول كيفيّة خوض هذه الإنتخابات وجميع السيناريوهات المرتبطة بها من قِبَل أيّ طرفٍ معارض، إلّا أنّ الجميع بانتظارها "لإحداث التّغيير" أو "قلب المعادلات" أو فرض "واقعٍ جديد".

أمام هذا التعويل المبالغ فيه على الإنتخابات التّشريعيّة وصولًا إلى حدّ التعنّت، لا بدّ من طرح بعض التّساؤلات والتّذكير ببعض المعطيات البديهيّة أملًا بإعادة التفكير مليًّا قبل خوض انتخاباتٍ، ينظّمها ويشرف عليها نظام احتلال، قد يكون لها عائدات سلبيّة على المشاركين فيها.

لم يستطع الشعب اللّبناني بشكل عام تقبّل أنّه أصبح يعيش في ظل دولة ديكتاتوريّة. قد يكون ذلك نتيجة تمسّكه بثقافة ديموقراطيّة إلى حدٍّ ما، أو بتاريخٍ من الحرّيّات تدفعه دائمًا لترديد عبارة: "عندنا حدّ أدنى من الديموقراطيّة". أو في بعض الأحيان، يلجأ إلى المقارنة مع الدول الديكتاتوريّة الّتي تحيط بنا، ويظنّ أنّ لبنان لا يزال "واحة ديموقراطيّة في هذا الشرق" بمجرّد أنّه لم ينحدر إلى مستويات ديكتاتوريّة يشهدها الجوار.

لكن في ظلّ احتلال المؤسّسات وتعطيلها، وتشويه التّمثيل الفعليّ نتيجة القوانين الإنتخابيّة أو قوّة السّلاح، واغتيال واعتقال وتهديد وترهيب النّاشطين السياسيّين: فماذا بقي من الديموقراطيّة؟ حتّى حين كانت الأغلبيّة النيابيّة بِيَدِ قوى 14 آذار، فرض حزب الله ما أراد من حكومات ورئيس جمهوريّة وقرارات مصيريّة رغمًا عن إرادة الأكثريّة: هل هذه ديموقراطيّة؟

وهنا يكفي العودة إلى التّصنيفات العلميّة للديموقراطيّات في العالم لنرى موقع لبنان، السيّء بطبيعة الحال، والحكم على الأمور من منطلق علمي (موقع The economist على سبيل المثال).

ثانيًا، يبرز التّناقض بشكل فاضح أكثر لدى القوى المعارضة السياديّة الّتي تحمل خطابًا معاديًا لحزب الله. فهذه القوى تعلن أنّ لبنان تحت الإحتلال الإيراني، وهو توصيف صحيح. لكن هنا يأتي السؤال: أيّ نتائج انتخابيّة تعوّلون عليها في ظلّ الإحتلال؟ أيّ شعب في العالم طالب بانتخابات نيابيّة كوسيلة للتخلّص من احتلاله؟ أيّ احتلال سيقدّم رأسه على طبق من فضّة من خلال انتخابات نيابيّة؟

في هذا الإطار، لا بدّ من التّذكير أنّ أيّ قانون انتخابي، ما كان حزب الله ليقبل به إن لم يعطِه أكثريّة برلمانيّة. فشعار "تعزيز" التّمثيل المسيحي الّذي رافق تلك الفترة، كان يمكن تحقيقه من خلال عشرات الصّيغ الإنتخابيّة الأخرى ولم يكن محصورًا بهذه الصّيغة فقط.

ثالثًا، واعتمادًا على تاريخ التجارب السياسيّة اللّبنانيّة، فإنّ السّلطة الحاليّة تتمتّع بترف تأجيل الإنتخابات إذا رأت أنّها غير مستعدّة لها في المرحلة الحاليّة كما حصل سنة 2013 من خلال المجلس النّيابي. إذا فكّرنا في الأمر مليًّا، يجب القلق بشكل جدّي إذا قرّرت السّلطة إجراء الإنتخابات، لأنّ ذلك يعني عاللّبناني: "مرتاحة على وضعها وحاطّتها بالجيبة للإنتخابات".

وتبقى هناك نقطة أساسيّة جوهريّة يجب التوقّف عندها لتحديد موقفنا من الإنتخابات المقبلة: نتائج هذه الإنتخابات إن حصدت نسبة مشاركة عالية ستمنح البرلمان المقبل شرعيّة شعبيّة يفتقدها البرلمان الحالي. بمعنى آخر، سيحظى الإحتلال على شرعيّة نحن بغنى عن تقديمها له في ظلّ ميزان قوى مختلّ لصالحه.

إذًا لعبة الإنتخابات ستُخاض من دون وجود أقلّ معايير المساواة بين المتنافسين، ووفقًا لشروط حزب الله وسلطته الحاكمة: يتحكّمون بشروطها وقوانينها، ويفرضون سطوتهم عبر نفوذ السّلاح والمال الإنتخابي، ويغتالون ويعتقلون ويُرهبون من يعارض، ويطيّرونها إذا أزعجتهم. فهل من المنطق والحكمة والعقل المشاركة بهذه اللّعبة؟

وهنا يجب الإضاءة والردّ على حجّتين واهيتين في إطار الدّفاع عن المشاركة في الإنتخابات النيابيّة:

- الأولى تعتبر أنّ "السّلطة الحاليّة ستخضع لضغوطات المجتمع الدّولي ولن تُقدم على إلغاء الإنتخابات": لا أعتقد أنّ أحدًا بحاجة إلى التّذكير بعشرات المواقف الّتي خالفت فيها هذه السّلطة الرّغبة الدّوليّة وعاندت بوجه ضغوطها خصوصًا في الآونة الأخيرة: من إسقاط مبادرات دوليّة ووضع لبنان داخل أزمات مفتوحة مع محيطه العربي والدّولي، وصولًا إلى عرقلة التّحقيق بمجزرة انفجار المرفأ سعيًا لإيقافه كليًّا... هل سيكترث حزب الله، الحاكم الفعليّ للبلد، بضغوطات المجتمع الدولي؟

- أمّا الثّانية ترى أنّ "القوى المعارضة بحاجة لتمثيل نيابيّ لتستطيع التّواصل مع الجهات الخارجيّة والمجتمع الدّولي": ألم تُراقبوا مثلًا كيف قرّرت واشنطن تخطّي حكومة أفغانستان السّابقة (الّتي كانت موالية لها) وتفاوضت مباشرةً مع طالبان؟ هل كان لطالبان تمثيل شرعيّ؟ وماذا حلّ بمن كان يملك الصّفة الشرعيّة؟ هذا علمًا أنّ تاريخنا اللّبناني مليء بالشّخصيّات والمجموعات الّتي نسجت علاقات مع الخارج من دون انتظار "صفة تمثيليّة".

لكن وفي ظلّ التشبّث على خوض المنافسة الإنتخابيّة، إذا وُجدت فعليًّا هذه المنافسة، فيجب على كلّ طرف معارض أن يجاوب على الأسئلة التّالية بشكل واضح منذ الآن:

- ما هو الشّعار الأساسي الّذي ستخوضون على أساسه هذه الإنتخابات؟

- من هي القوى الّتي من الممكن أن تتحالفوا معها ومن هي القوى الّتي لا يمكنكم أبداً خوض الإنتخابات إلى جانبها؟

- ما هي الخطوات العمليّة الّتي ستقومون بها في حال إلغاء الإنتخابات؟

- وماذا سيكون موقفكم في حال خسرت القوى السياديّة هذه الإنتخابات وربحها ائتلاف يدعمه أو يرأسه حزب الله؟ هل ستلقون اللّوم على "خيارات الشعب" وتُدخلون جمهوركم في حالة خيبة جديدة وتنتظرون انتخاباتٍ مقبلة أو ستعتمدون طُرقًا مغايرة لرفع الإحتلال؟

فإذا بقيت "الإنتخابات النيابيّة" مجرّد شعارٍ تتمسّكون به، ولا ترسمون خطّة واضحة لخوضها وفق جميع السيناريوهات المحتملة، وترفضون حتّى فكرة مقاطعتها والتّفكير ببدائل أخرى لمواجهة الإحتلال عوض عن إعطائه الشرعيّة، ستكون المشاركة في هذه الإنتخابات استحقاقًا يعزّز قوّة حزب الله وإعلانًا صريحًا بعدم الرغبة في المواجهة.