هشام بو ناصيف
لم يحصل ذلك الانقلاب العسكري المشؤوم في القاهرة عام 2013 فقط لأنّ الجنرال سيسي يملك دبّابات. لو كانت المسألة مسألة سلاح وحسب، لوقع انقلاب كلّ يوم في العالم. ثمّة ظروف سياسيّة تسهلّ استيلاء الجيوش على السّلطة، أهمّها عجز القوى المدنيّة عن رصّ الصّفوف بمواجهة العسكريتاريا. بعد سقوط حسني مبارك عام 2011، بدا بسرعة أنّ شبق الأخوان المسلمين للسلطة، واحتقارهم لليساريّين واللّيبراليّين، أقوى حتّى من رفضهم للمؤسّسة العسكريّة الّتي اضطّهدتهم منذ العام 1954 على الأقلّ. المشاعر كانت متبادلة من جهة اللّيبراليّين واليساريّين، وقد زاد من حدّتها انتصار الأخوان المتكرّر عند كلّ محطّة انتخابيّة بين 2011 و2013. هذا الإستقطاب الحادّ داخل المعسكر المدني خلق شرخًا تسلّل منه الجيش إلى السلطة، على حساب الأخوان، واللّيبراليّين، واليساريّين. وإن كان حمدين صباحي، رئيس حزب الكرامة (النّاصري)، توهّم أنّ الجيش سيضرب الأخوان، ثمّ يصل هو (أي صباحي) للسلطة، فلأنّ أحدًا لم يتّهم الناصريّين مرّةً بالذكاء.
السيناريو المصري كان تكرّر سابقًا في أميركا اللاتينيّة. الإستقطاب هناك وضع اليمين بمواجهة اليسار لعقود، بعد الحرب العالميّة الثانية. وفي كلّ مرّة كان اليسار يتقدّم، كان اليمين المذعور يهرول صوب الثكنات مستنجدًا بالجيش. وفي كلّ مرّة كان الأخير يلبّي النداء، كان يعطلّ اللّعبة السياسيّة بأسرها، يمينًا ويسارًا. هذا ما اكتشفه المحافظون في تشيلي مثلًا بعد استيلاء الجنرال بينوشيه على السلطة. صحيح أنّ اليسار كان الخاسر الأكبر بعد انقلاب عام 1973، ولكنّ الجنرالات المنتصرين أرسلوا اليمين فورًا الى الهامش السياسي، حيث بقي حتّى عودة الديموقراطيّة في التسعينات.
رُبّ قائل إنّ الظروف البنيويّة لم تكن مناسبة لتثبيت الديموقراطيّة في البلدين، عنيت مصر وتشيلي. ربّما. ولكنّ الأكيد أنّ حسابات النُّخب السياسيّة ليست مجرّد انعكاس تلقائي لهذه الظروف. ثمّة خيارات تدفع المجتمعات قدمًا، وأخرى تنحرها؛ ولا شيء ينحر أيّ مجتمع أكثر من فشل قواه الحيّة بقراءة المرحلة، وفهم أولويّاتها. الأثمان تكون قاسية على المجتمعات عمومًا، وعلى اللّاعبين أنفسهم، بدليل مصير سيلفادور آليندي في تشيلي، ومحمّد مرسي، وضحايا مجزرة رابعة العدويّة، في مصر.
نصل الى لبنان. لن أدخل بالنّقاش المضحك حول من انتصر في انتخابات الجامعة اليسوعيّة. ادّعاء كافّة القوى أنّها ربحت تقليدي، ويُدخِل فكاهةً إلى المشهد الرّتيب. الأكيد هو الآتي: 1) مزاج الشباب في اليسوعيّة (وسائر الجامعات) معارض بامتياز. 2) القوّتان الشبابيّتان الأساسيّتان في اليسوعيّة (ومعظم الجامعات)، هما القوّات والعلمانيّون. 3) الإستقطاب الحادّ بين القوّات والعلمانيّين، يصبّ موضوعيًّا في خدمة من يكرهما معًا: حزب اللّه.
لم تكن موفّقة، العام الماضي، اتّهامات القوّات لمجموعة "طالب" باليسوعيّة، بأنّها توالي حزب اللّه سرًّا. هؤلاء الطلّاب جعلوا من سمير قصير رمزًا لهم، ومن يحبّ شهيد ثورة الارز ليس عميلًا لحسن نصر اللّه. وبشكل عام، لا ضرورة للتحسّس المفرط من كلّ ما هو علماني أو يساري. في المخيال المسيحي العام، هذه الكلمات تستدعي صور الحركة الوطنيّة، والحليفين ياسرعرفات وكمال جنبلاط، والبندقيّة الفلسطينيّة، وجرائمها بالحرب. كلّ هذا مفهوم، ولكن كلّ هذا من الماضي. السياسة هنا، الآن، أو هكذا ينبغي أن تكون.
ولكنّ الإنصاف يقتضي أن نقول أنّ العلمانيّين أكثر عدائيّة تجاه القوّات من العكس. أيّ وقاحة، أيّ جنون، مثلًا، دفعا هذه الحفنة من اليسارويّين لافتعال مشكل الجمّيزة قبل أشهر، على وقع هتافات "سمير جعجع صهيوني"؟ ثمّ أيّ ضرورة ليهاجم النادي العلماني بالجامعة الأميركيّة القوّات بلهجة مستقاة من مرحلة الحرب، عند كلّ ذكرى سنويّة لمجزرة صبرا وشاتيلا، علمًا أنّ صمت القبور يخيّم على علمانيّي الأميركيّة عند كلّ ذكرى سنويّة لمجزرة الدامور (أليس ضحاياها بشرًا، بالمناسبة؟) ثمّ ما معنى إصرار العلمانيّين على وضع القوّات في خانة واحدة مع الحزب؟ هل أتت القوّات بالنيترات إلى مرفأ بيروت؟ هل اغتالت لقمان سليم؟ هل هي دولة داخل الدولة، وضدّها؟
القوّات نبض سيادي قوي في مجتمعنا اللّبناني. العلمانيّون كذلك على العموم، دع عنك ظواهر شاذّة متركّزة خصوصًا في حرم الأميركيّة. ليس مطلوبًا من القوّاتيّين والعلمانيّين أن يحبّوا بعضهم – لم يكن ذلك بدوره مطلوبًا من إخوان مصر وليبراليّيها، أو من اليمين واليسار في أميركا اللّاتينيّة. المطلوب بالمقابل، من القوّاتيّين والعلمانيّين، ألّا يحبسوا أنفسهم ذهنيّّا بمرحلة الحرب، وألّا ينظروا إلى بعضهم بعضًا كمجرّد استمرار لها، لأنّهم ليسوا كذلك. المطلوب خصوصًا ألّا يخطئوا بقراءة المرحلة وأولويّاتها: حتّى يعود السلاح في لبنان ملكًا للدولة وحسب، كلّ التناقضات ثانويّة، عدا واحد: الموقف من السلاح غير الشرعي. من يملكه، في خانة. من يعارضه، في خانة مقابلة، حيث القوّات والعلمانيّين معًا. الأساس حصر السلاح بالدولة. بعدها – فقط بعدها – نرى.