هشام بو ناصيف
خرج العرب من لبنان الى أجَلٍ غير مسمّى. يبقى أنّ زيارة السفير السعودي الأخيرة قبل مغادرة بيروت كانت لرئيس القوّات اللبنانيّة سمير جعجع. يبقى أيضًا أنّ الأبواب مفتوحة لجعجع في كلّ العالم العربي، بينما لن يَستقبل حسن نصر اللّه، لو خرج من الضاحية، سوى الحوثيّين في اليمن، أو ميليشيات الحشد الشعبي في العراق، أو نظام الأسد بسوريا. ينتمي نصر اللّه إلى منطق وخطاب سياسييّن يقرّعان "الإنعزال" اللّبناني منذ عقود. ولكن إن كان الانعزال يعني الغربة عن محيط لبنان العربي وقضاياه، فالإنعزالي الحقيقي اليوم هو نصر اللّه نفسه.
ليست المرّة الأولى يكون فيها السياديّون اللبنانيّون على تماس ايجابي مع جوارهم العربي، وأخصامهم بالعكس. في الخمسينات، اصطدم كميل شمعون بنظام عبد الناصر في القاهرة، صحيح. ولكنّ الرياض، وبغداد، وعمّان، وتونس، وسواها من عواصم العرب كانت أقرب لخطّ شمعون في السياستين الإقليميّة والدوليّة، منه للناصريّة. انحصر الحلفاء العرب لمعارضي شمعون بالجمهوريّة المتّحدة عمليًّا، أي بنظام مخابرات عبد الحميد السرّاج في دمشق، وسجون حمزة البسيوني في القاهرة. باسم العرب وقضاياهم، أدارت المعارضة اللبنانيّة يومها ظهرها لمعظم العرب، واختصرتهم كلّهم بمن صنع لاحقًا كبرى هزائمهم، عبد الناصر. من كان الإنعزالي الحقيقي آنذاك؟
في العام 1987، ظهر ياسر عرفات على شاشة تلفزيون لبناني في مقابلة دافئة وحصريّة. هذه الشاشة لم تكن سوى المؤسّسة اللبنانيّة للارسال التي كانت تابعة للقوّات اللبنانيّة. نسجت الأخيرة آنذاك علاقات جيّدة مع منظمّة التحرير، وممتازة مع النظام العراقي، وأيضًا مع النظام المصري الّذي ساعد القوّات على تطوير علاقاتها العربيّة. بالمقابل، انحصرت العلاقات العربيّة للطرف الآخر في نهاية الثمانينات بحافظ الاسد، ومعمّر القذّافي. ونِعمَ العلاقات.
الإنعزال واحد من المفاهيم العديدة التي تحتاج الى إعادة قراءة جديّة عندنا. ومنذ كان لبنان، اصطدم فيه عند كلّ محطّة مفصليّة اتّجاهان: واحد مصرّ على رميه بأتون المنطقة ومحاورها، باسم قضايا دومًا مقدّسة، ودائمًا أهمّ من لبنان، وآخر يحاجج بأنّ التجربة اللبنانيّة تستحقّ أن تُحمى، وأن تعيش. المفارقة أنّ الاتّجاه الثاني "الإنعزالي" لم يعدم مرّة حلفاء عرب متفهّمين، من بورقيبة والملك حسين في ما مضى، إلى السعوديّة وحلفائها اليوم. المفارقة أيضًا أنّ الحلفاء العرب للإنعزاليّين اللبنانيّين المفترضين كانوا كثرًا، كلّ مرّة، ووازنين، دع عنك أكذوبة التقوقع التي حاول اليسار الطائفي اللّبناني وصمهم به. وعمومًا، منذ أن ورث حزب اللّه خطّ اليسار الطائفي وأدبيّاته، نعلم أيّ اتّجاه انتصر في بيروت. نعلم أيضًا كيف تكون أحوال بلادنا عندما يخسر فيها "الإنعزاليّون".