هشام بو ناصيف
أعرف في محيطي العائلي المباشر قوّاتيّين شاركوا بـ17 تشرين من دون انتظار تعليمات فريقهم. بدوا مستعدّين لاثنين: 1) التخفّف من الإنضباط الحزبي. 2) المشاركة في الشأن العام كمواطنين متضرّرين من الستاتيكو القائم، إلى جانب متضرّرين آخرين، بغضّ النظر عن الخلفيّات الطائفيّة أو الحزبيّة أو المناطقيّة. لأيّام، طفت على السطح حقيقة أنّ مئة عام من التجربة اللبنانيّة خلّفت بين أبنائها هويّة لبنانيّة جامعة تتعايش مع الإنتماءات الأخرى من دون أن تلغيها.
القوّاتيّون هؤلاء عادوا إلى مربّعهم الأوّل بعد ضربتين قويّتين تلقّاها مجتمعهم. الأولى، هي تفجير المرفأ. صحيح أنّ ضحاياه من كلّ الطوائف، ولكنّ الصحيح أيضًا أنّ هويّة الأشرفيّة المجتمعيّة لا تحتاج إلى تمحيص كثير. وأمّا الثانية، فغزوة عين الرمّانة. في الحالتين، تحرّك فيهم قلق يعرفه جيّدًا أبناء الأقليّات في منطقتنا: الخوف على الوجود. في العام 1975، شعر أهلهم بخوف مشابه، فنظروا خصوصًا صوب بيار الجميّل والكتائب اللبنانيّة؛ حتّى ريمون إدّه، إبن العائلة التي لا غبار على شرعيّتها المارونيّة، لم يستطع مقاومة الموجة آنذاك. واليوم، ينظرون باتّجاه القوّات اللبنانيّة.
لا يعني هذا أنّ الكتائب أرادت الحرب، ولا القوّات غزوة عين الرمّانة. هذه قوى سياسيّة تستفيد من ظروف معيّنة، وتتراجع في أخرى، كحال كلّ القوى في أيّ مكان من العالم. هذا يعني بالمقابل أنّ خوف الجماعات على وجودها في لبنان (والمنطقة) أقوى من أيّ اعتبار آخر. وعندما يتحرّك هذا الخوف، تسقط فورًا إمكانيّة التخفّف من الإلتزام بالحزب والطائفة ويرتفع منطق القوّة الذّاتيّة وحماية "مناطقنا".
لا لوم على القوّات هنا، ولا على من يلجأ إليها. يبقى أنّ القوى البديلة هي الضحيّة الطبيعيّة لهذا النّوع من الديناميكيّات. يبقى أيضًا أنّ بولا يعقوبيان لم تُنتخب في بعلبك، وأنّ "بيروت مدينتي" لم تحصد أعلى نسبة أصوات في بيروت الثانية أو الثالثة. المقصود هو ما يلي: عندما تخسر القوى البديلة ساحتها المسيحيّة، تخسر حاضنتها الأولى في لبنان. وعندما يدفع حزب اللّه المسيحيّين دفعًا صوب القوّات، فالقوى البديلة هي الخاسر الأكبر. أن يكون خطاب هذه القوى تجاه حزب اللّه مرتبكًا، وأن يصير شعار "كلّن يعني كلّن" حجّةً للرّماديّة، فيعني اثنين لا ثالث لهما: إمّا أنّ القوى الجديدة لا تملك شجاعة تسمية الأمور بأسمائها؛ أو أنّها لا تفهم ألف باء سياسة لبنان ولا تعلم تاليًا من هم عتاة أعدائها. مرّة جديدة أكتب أنّ تطوير القوى البديلة حاجة لبنانيّة. ولكنّ هذا مرتبط بتغيير جدّي في الخطاب والمقاربة. زمن المراهقة الثوريّة حبّذا لو ينتهي.