ليس دفاعًا عن الفساد: سقى الله الزبائنية القديمة ومفاسدها

بشار حيدر

"فساد السلطة وأحزابها، فساد المنظومة الحاكمة، والطبقة أو الطغمة السياسية الفاسدة ... الخ". هذه وأمثالها من العبارات إجابات متشابهة يتبناها الجميع، بمن فيهم من هم في "السلطة"، عن أسباب الانهيار المالي والاقتصادي الذي يعيش اللبنانيون في كنفه هذه الأيام. لكن هذه الإجابات لا تلحظ أن تلك الطبقة السياسية الفاسدة، متضررة هي أيضاً من الانهيار.

ولا شك في أن هناك فساداً مُستشرياً في لبنان وعلى المستويات كلها. ولا جدال أيضاً في أن من هم في السلطة ضالعون في الحصة الأكبر من ذلك الفساد وعوائده، ويقع على من هم خارجها الثقل الأكبر من أعبائه. وبالرغم من ذلك، فالانهيار الاقتصادي والمالي الساحق الذي أصاب البلاد وأهلها، أصاب أيضاً مصادر قوة سلطة الضالعين في الفساد وركائزها. فالطبقة السياسية الحاكمة مُتهَمةٌ، بحق، بأنها تعتاش وتنمو على شبكات زبائنية تمكّنها من إرساء تبعية سياسية تبقيها في الحكم. ولبناء هذه العلاقات الزبائنية يعتمد أهل السلطة على استخدام ريوع الدولة ومواردها. فهم يخصصون المناصب والوظائف والخدمات والمشاريع والتعهدات وسواها، لمكافأة بطاناتهم ومناصريهم والمقترعين لهم، ويحرمون منها الآخرين.

وفي ظل إفلاس الدولة الحالي وتلاشي مقدراتها وعطاءاتها، وخصوصاً انعدام القيمة المالية لوظائف القطاع العام، لم يعد لأصحاب السلطة الكثير ليقدموه إلى اتباعهم ومواليهم في هذا القطاع. فوظيفة الجيش أو الدرك على سبيل المثال، التي كان كثيرون يتسابقون عليها ويخطبون ودها من أهلها النافذين وأهل السلطة، لم تعد كذلك. لا بل صارت هذه الوظائف عبئاً على أصحابها، ويسعون إلى التخلص منه في أقرب فرصة ممكنة.

فظاهرة الفساد السياسي تضررت إذاً بفعل الانهيار. ومصالح أرباب الفساد والضالعون فيه من "الطبقة السياسية" لا يناسبهم هذا الانهيار. وهم يفضلون عليه بقاء منظومة "الفساد المستدام"، "فلا يموت الذئب ولا يفنى الغنم ولا الغنيمة"، على ما يتردد في قول شائع. وهذا ما نجحت الطبقة السياسية في تحقيقه طوال العقود المديدة المنصرمة. وقد حرص أهل السلطة، على اختلاف ألوانهم في تلك العقود، على تفادي الانهيارات الاقتصادية الكبرى، فقدموا لذلك التنازلات في مؤتمرات الدعم واستجداء المنح وإصلاحات اللحظة الأخيرة، وسوى ذلك من تلفيق الحلول تلافياً للانهيار.

ومنذ نهاية الحرب الأهلية وحتى وقت قريب، أثبتت مجموعات السلطة أنها قادرة على إيجاد هامش مريح ومربح من الفساد، من دون أن تعرِّض الدولة والمجتمع إلى الانهيار الاقتصادي والمالي التام. طبعاً لم تقع عقود الفساد تلك برداً وسلاماً على اللبنانيين. فهي حالت دون أن ينعموا بوضع يعكس قدراتهم الاقتصادية وطاقاتهم البشرية وكفاءاتهم المهنية. لذا، أخفق البلد إخفاقاً فضائحياً في مجالات الطاقة والنقل والبيئة والبنى التحتية وأنظمة العمران والعمارة وسواها. وفي السنوات الثلاثين الماضية لم ينعم اللبنانيون، على سبيل المثال لا الحصر طبعاً، بطاقة كهربائية دائمة في أي من مناطقهم. وهذا ما توفره دول كثيرة، معدلات دخلها أقل بكثير منها في لبنان.

والفساد المستدام هو ما تريده "الطبقة السياسية الحاكمة"، وليس الانهيار الذي قد يقوِّض أساسها. وإذا كانت "السلطة السياسية" فعلا متضررة من الانهيار، فكيف نفسر إذاً سلوكها حياله؟ ولماذا لم تسارع هذه السلطة إلى قبول عرض صندوق النقد الدولي منذ أكثر من سنة، والذي لا مهرب منه مدخلاً للجم الانهيار، بدل إضاعة الكثير من الوقت الثمين؟ وقبل ذلك، لماذا لم تسارع السلطة إلى تبني توصيات سيدر عام 2018 وتباشر تفعيلها للحصول على الأموال المرصودة؟ وشروط صندوق النقد ومؤتمر سيدر -وإن فرضت على "الطبقة السياسية" أن ترخي قبضتها عن بعض الريع وربما لبعض الوقت فقط- تصبُّ في مصلحة هذه الطبقة في المدى المتوسط والبعيد.

وقد يعزو البعض فشل الطبقة السياسية في تفادي الانهيار الى غبائها وقصر نظرها. لكن حجة الغباء وقصر النظر هنا ضعيفة وغير مقنعة. فمن سمات هذه الطبقة، على ما يصفها حتى خصومها، أنها طبقة متمرسة في الحكم، وتدرك مصالحها جيداً وتدافع عنها بشراسة. لذا لا يعقل اعتبارها عديمة الإدراك لتلك المصلحة ومقتضياتها.

إن فشل الطبقة السياسية في تفادي الانهيار أو لجمه غير ناجم عن غبائها أو قصر نظرها، بل عن عجزها المستجد في ذلك. والعجز هذا ناجم، في واقع الأمر، عن أن السلطة السياسية أضحت سلطة ظل، ولم تعد سلطة حقيقية. فهي مستمرة في الحكم بفعل رضا السلطة الحقيقية عنها. لكن هذه الأخيرة لا تستمد شطراً أساسياً من سلطتها، لا من الشبكات الزبائنية ولا الخدماتية المعتمدة على ريع الدولة اللبنانية، بل من قوتها العسكرية التي تعتمد على ريع دولة أخرى. وكذلك من ولاء غير زبائني لجمهورها المفتون بعسكرها وبكاريزما قائدها المعصوم. لذا، تتحرك السلطة الفعلية هذه وتتفاعل في إطار أولويات وهواجس مختلفة نوعياً عن تلك التي تتحرك في إطارها سلطات الظل. وهذه الأخيرة أضحت تدرك أن بقاءها في السلطة رهين رضا السلطة الحقيقية عنها وقيامها بالأدوار التي تنيطها بها تلك السلطة. وهذا ناجم عن انعدام توازن القوى بين هاتين السلطتين، لصالح السلطة الفعلية أو الحقيقية وقوتها العسكرية.

وعلى الرغم من علاتها ومساوئها الكثيرة التي نعرفها جيداً، شكلت العلاقات الزبائنية بين السلطة اللبنانية وجمهورها في الماضي رادعاً من انهيارات اقتصادية ومالية، كالتي يشهدها لبنان اليوم. أما ضعف العلاقة الزبائنية بين السلطة الفعلية الحالية وجمهورها، واستبدالها بعلاقة الافتنان بالقوة العسكرية وبكاريزما زعيمها، فهو ما رمى البلاد في أتون هذا الجحيم الاقتصادي.

سقى الله الزبائنية القديمة ومفاسدها.