فضيحة جامعيّة جديدة

حنان رحمة

زمن الفضائح والإنهيارات – تابع. أفادت وسائل إعلام لبنانيّة وعراقيّة في الأيّام الماضية عن قيام الجامعة الإسلاميّة اللّبنانيّة (التابعة للمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى)، وجامعة الجنان (مؤسّسها الدّاعية الإسلامي فتحي يكن)، والجامعة الحديثة للإدارة والعلوم، ببيع آلاف الشهادات الجامعيّة العليا لعراقيّين، لم يكلّفوا أنفسهم عناء الحضور إلى الجامعة ولو ليومٍ واحد، مكلّفين مكاتب السّماسرة بالقيام بمهمّة التّسجيل وتخليص المعاملات بدلًا عنهم. الجامعات الثلاث منحت الشهادات المزوّرة لسبعة وعشرين ألف طالب عراقيّ في السنتين الأخيرتين، من بينهم سياسيّين ونوّاب وموظّفين في مناصب عالية في الدولة. فضيحة جديدة تأتي اليوم لتُجهز على ما تبقّى من صيت طيّب راكمه القطاع التّربوي اللّبناني اعتبارًا من العقدين الأخيرين للقرن التاسع عشر، وخصوصًا في ظلّ الجمهوريّة الأولى، قبل الحرب.

وفي خبر ذات صلة بالقضيّة، فقد صدر قبل أيّام قرار إعفاء مدير عام المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى المحامي نزيه جمّول من منصبه، وهو الّذي يتبوّأ أيضًا أعلى منصب إداري في الجامعة الإسلاميّة اللبنانيّة. وأثارت إقالته استغراب المتابعين الشأن الشيعي في لبنان، إذ أنّه يُعتبر من الحائزين على رضى وثقة كبيرين من الكبار في الطائفة الشيعيّة، وخصوصًا من الثنائي "أمل" و"حزب اللّه"، لدرجة أنّه جرى تمديد تعاقده في المجلس مدة 5 سنوات بعد تقاعده العام الفائت. وأفادت المصادر نقلًا عن موظّفين في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، أنّهم كانوا يشاهدون عشرات العراقيّين وهم يتردّدون بعد ظهر كلّ يوم إلى مكتب جمّول وسكرتيرته وفاء ضاوي، المسؤولين الحصريّين عن ملفّ إنجاز وتجديد إقامات العراقيين في لبنان، من اجل تسوية أوضاع إقاماتهم وتجديدها، فيقوم جمّول وضاوي بإصدار كتاب توصية باسم المجلس الشيعي لهم، ويرسلان أحد أعوانهما إلى الأمن العام يوميًّا محمّلًا بجوازات السفر. وعلى حدّ تعبير هذه المصادر، حوّل جمّول مكتبه إلى مكتب تعقيب معاملات للعراقيين مقابل بدل 50 او 100 دولار لكلّ معاملة وبعضها أكثر من ذلك، وهذه الإضافة على الرّسوم تؤخذ بحجّة أنّها رسوم للأمن العام، وهي ليست كذلك طبعًا.

الأرقام صادمة. إذ أفادت مصادر مطّلعة على الملفّ أنّ أكثر من 6 آلاف طالب في مراحل الشّهادات العليا وحدها حصلوا على شهادات مدفوعة الثمن، وذلك في اختصاصات الحقوق والعلوم السياسية والدراسات الإسلامية والإنسانيات. وكلّها تمّت عن بُعد، بذريعة جائحة كورونا. فكيف يمكن لجامعة أن تستوعب أصلًا هذا العدد الهائل من الطلّاب في هذه المراحل، وتؤمّن العدد الكافي من الأساتذة للإشراف على أطروحاتهم، في حين يُسمح للأستاذ الجامعي أن يُشرف على عدد محدّد من الأطروحات سنويًّا؟ ويبدو أنّ الجامعات اللّبنانيّة استفادت من جائحة كورونا لكي تبرّر هذا الكمّ الهائل من "المتعلّمين" عن بُعد، كما استفاد "الطلّاب" غير المستحقّين من التّدهور الإقتصادي غير المسبوق في لبنان (بالإضافة طبعًا إلى الإنهيار الأخلاقي في نفوس المسؤولين في هذه الجامعات) لكي يحصلوا على شهادة عليا أو لقب "دكتور" مقابل تسديد أقساط ورشاوى بالدولار النقدي، إذ تصل العمولة التي يتقاسمها افراد شبكة التّزوير اللّبنانية-العراقية في بيروت إلى نحو 5 آلاف دولار عن كل طالب ماجستير، وعشرة 10 آلاف دولار عن كل طالب دكتوراه.

وكردّة فعل على الفضيحة المدويّة، أصدرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقي قرارًا رسميًّا يقضي بتعليق دراسة مواطنيها في 3 جامعات لبنانيّة خاصة، "لعدم التزامها بمعايير الرصانة العلميّة"، وسحبت الملحق الثقافي في السفارة العراقيّة في لبنان، هاشم الشمري، إلى العراق وأحالته إلى التّحقيق. إلّا أنّ أوساطًا عراقيّة متابعة استبعدت الوصول إلى نتيجة في هذا الملف نتيجة تورّط مسؤولين عراقيّين وأشخاص لبنانيّين كثر، وأشارت إلى تدخّل مسؤولين عراقيّين كبار لوقف التّحقيق خوفًا من سحب الشّهادات الصّادرة عن لبنان خلال السّنتين الفائتتين، نظرًا لاستفادتهم الشخصيّة منها أو استفادة مقرّبين منهم.

وعمومًا، ليست المرّة الأولى الّتي يبدو فيها أنّ قسمًا غير قليل من الجامعات الّتي فرّخت في لبنان بعد الحرب ليست أكثر من دكاكين تربويّة. فكّر مثلًا في البلبة الّتي أثارتها قبل سنتين جامعة "غلوبال يوروبيين يونيفورسيتي" في مدينة صور الجنوبيّة (مديرتها ميسم عواضة) الّتي كانت تصرّ أنّها قانونيّة ويحقّ لها تخريج الطلّاب، ليتبيّن لاحقًا أنّها غير مرخصّة وفق قوانين التعليم العالي اللّبناني. وذلك بالإضافة إلى أخبار تُروى عن المعايير غير الواضحة الّتي اتّبعها وزير التربية اللّبناني السّابق عبد الرّحيم مراد، الحليف الثابت للنّظام السّوري في لبنان، للتّرخيص للجامعات وفروعها، بما فيها جامعته هو، اللّبنانيّة الدوليّة.

ومن المستبعد تمامًا أن يتعرّض أيّ وزير تربية في لبنان للمساءلة بسبب ما حصل، علمًا أنّه يهزّ سمعة نظامنا التربوي بأسره. الإفادة بخبر كهذا لا لأملٍ بالمحاسبة وتصحيح المسار في ظلّ هذا النظام المركزي العقيم الّذي يحكمنا، فهذا حلمٌ لم يعد يراودنا منذ زمن. الفضيحة الجديدة تذكير آخر بضرورة تغيير نظامنا من أساسه، بعد استعادة السيادة، كي نُعفي أجيالًا جديدة من اللّبنانيّين من ارتكابات نظام المافيا-ميليشيا. بمعنى آخر: الفضيحة التربويّة عارض من عوارض مرض سياسي عضال يصيبنا. وحلّ الأمراض السياسيّة ليس تقنيًّا.