كيف تختلف الفدراليّة الجغرافيّة عن الإثنو- فدراليّة والحكم المركزي؟ (1)

لماذا نحن فدراليّون (6/23): كيف تختلف الفدراليّة الجغرافيّة عن الإثنو- فدراليّة والحكم المركزي؟ (1)

ثمّة خمسة أنواع من الأنظمة السياسيّة عمومًا: 1) الدولة المركزيّة البسيطة (فكّر سوريا، أو لبنان). 2) الدولة المركزيّة المركبّة، وهي دولة مركزيّة تعطي مناطق أو جماعات فيها نوعًا من الحكم الذاتي، مثل الوضع الذي تتمتّع به كورسيكا في فرنسا؛ أو غرينلاند في الدانمارك؛ أو صقليّة في إيطاليا. 3) الفدراليّة الجغرافيّة، حيث تقسيم الولايات الفدراليّة لا يتبع حدود انتشار الطوائف أو الجماعات (فكّر، الولايات المتّحدة أو ألمانيا). 4) الإثنو-فدراليّة، حيث تعبّر كلّ الولايات الفدراليّة عن الهويّات الطائفيّة للقاطنين فيها (فكّرفي بلجيكا أو البوسنة-هرزوغيفينيا أو اثيوبيا). 5) الفدراليّة المركبّة، وهي مزيج من الفدراليّة الجغرافيّة والإثنو- فدراليّة، حيث ترسم حدود بعض الولايات على أساس التوزيع الطائفي، وأخرى لا (فكّر في كندا أو سويسرا أو إسبانيا أو العراق بعد 2005). يمكن، للاختصار، حصر التصنيفات الخمسة أعلاه بثلاثة: الدولة المركزيّة، الفدراليّة الجغرافيّة، والإثنو-فدراليّة.

وأمّا نظام الحكم المركزي، فهو يجعل من العاصمة مركز القرارين السياسي والإداري. طبعًا، يمكن للدولة المركزيّة أن تتّبع اللامركزيّة الإداريّة (Decentralization)، أو اللاحصريّة (Deconcentration)، أو الاثنين معًا – ولكن هذا لا يلغي أنّ مركز القرار يبقى السلطات الحكوميّة في العاصمة. وحتّى عندما تنحو الدولة المركزيّة صوب اللامركزيّة الإداريّة، يبقى أنّ صلاحيّات هيئاتها المحليّة (كالبلديّات مثلًا، أو المحافظين) تقرّر عبر قوانين يمكن تغييرها بقوانين أُخرى. هنا تختلف اللامركزيّة الإداريّة بالعمق عن الفدراليّة، حيث صلاحيّات الولايات الفدراليّة يضعها الدستور، ولا يمكن تعديلها إلّا بتغيير الدستور، وهي مسألة أصعب بكثير من مجرّد التصويت على قانون جديد، أو إلغاء قانون قائم أو تعديله. ثمّ أنّ استقلاليّة السلطات المحليّة تجاه العاصمة في النظام اللامركزي الإداري أقلّ بكثير من استقلاليّة مكوّنات الإتّحاد الفدرالي، أي الولايات الفدراليّة، تجاه السلطات المركزيّة. يمكن مثلًا لوزير الداخليّة حلّ بلديّة أو إقالة محافظ. بالمقابل، لا يمكن لوزير داخليّة في دولة فدراليّة إصدار قرار حلّ كانتون، أو إقالة حاكم ولاية أو تغيير دستورها. بالحقيقة –وهنا لبّ الموضوع– لا يمكن للسلطة المركزيّة تغيير صلاحيّات الوحدات المحليّة بالفدراليّة من دون موافقة هذه الوحدات نفسها. هنا الحصانة الحقيقيّة للّامركزيّة التي يؤمنّها النظام الفدرالي. وبشكل عام، بمقدار ما يكون المجتمع متجانسًا من النواحي الدينيّة أو اللغويّة أو الجهويّة، تنحو السلطات لاعتماد شكل الحكم المركزي، وهو أقلّ تعقيدًا من الأنظمة الفدراليّة على أنواعها. بالمقابل، بمقدار ما يكون المجتمع متنوّعًا على مستوى الهويّة، بمقدار ما تنحو المجتمعات صوب الفدراليّة لإدارة تنوّعها. أمّا أكثر الخيارات إشكاليّة، فهي فرض نظام حكم مركزي، على مستوى المؤسسات السياسيّة (Institutions)، على شعب متنوّع لناحية البنية المجتمعيّة (Societal Structure). وهذه بالظبط الحالة الشاذّة في لبنان.

وأمّا النظام الفدرالي الجغرافي، فيقوم في الدولة التي تتّبع اللامركزيّة السياسيّة، من دون أن تتفق حدود الوحدات الفدراليّة مع مناطق سكن خاصّة بهويّات أو طوائف معيّنة. في الولايات المتّحدة مثلًا، جماعات كالأوروبيّين-الأميركيّين (البيض) والأفارقة-الأميركيّين (الزنوج) أو اللاتينوز؛ ولكن، لا يوجد تقسيمات جغرافيّة تقوم على أساس عرقي. في كلّ ولاية أميركيّة أعراق مختلفة، والفدراليّة في هذه الحالة نتجت عن ظروف تاريخيّة محدّدة، منها مثلًا أنّ الولايات المختلفة كانت بالأصل مجتمعة باتّحاد كونفدرالي، وأن الفدراليّة سمحت بالانتقال من الكونفدراليّة الى الدولة الواحدة، مع طمأنة الولايات المختلفة إلى أنّها ستظلّ تتمتّع بنوع من استقلاليّة ذاتيّة بدل أن تدار كلّ أمورها من المركز (ألمانيا نموذج آخر مشابه في هذا الاطار، والأرجنتين أيضًا).

وأمّا الإثنو-فدراليّة، فهي نظام فدرالي يعطي الجماعات حقّ إدارة شؤونها عبر ولايات تكون لها موطنًا تاريخيًّا. ثمّة دول إثنو-فدراليّة كليًّا (فكّر في بلجيكا)، بمعنى أن كلّ الوحدات الجغرافيّة للدولة الفدراليّة تعبّر عن هويّات مجتمعية محدّدة (هي في الحالة البلجيكيّة، الوالون، أي البلجيك الفرنكوفون، والفلامند، أي البلجيك الناطقين باللغة الهولنديّة). وثمّة أيضًا كما ذكرنا دول إثنو-فدراليّة جزئيًّا (فكّر في كندا)، بمعنى أنّ جزءًا من الوحدات الفدراليّة يكون منظّمًا حول هويّة مجتمعيّة محدّدة (الكيبيك الفركوفوني في الحالة الكنديّة؛ أو كردستان في العراق؛ أو كاتالونيا في اسبانيا. وهذا ما أسميناه في مقدّمتنا بالفدراليّة المركّبة)، على أن تنظّم الوحدات الأخرى على أساس الفدراليّة الجغرافيّة. وسواء كانت الإثنو-فدراليّة تامّة أو جزئيّة، يبقى أنّ شرطها الشارط هو الخروج من وهم الوطن/الأمّة -كما روّجت له إيديولوجيا الثورة الفرنسيّة بنسختها الجاكوبينيّة، المتأثرة بمفهوم روسو للدولة- ومن خرافة "الإنصهار الوطني"، باتّجاه القبول بالتعدديّة المجتمعيّة لا كمرض ينبغي علاجه، ولا كمرحلة ينبغي تخطّيها حكمًا، بل كشكل خاصّ من أشكال البنى المجتمعيّة ينبغي الاعتراف به، وتنظيم أموره وفقًا لما يناسبه. هذا النظام، أي الإثنو-فدراليّة، ينجح أحيانًا بتجنيب المجتمعات التعدديّة إشكالات الإنفصال (مجدّدا، فكّر في بلجيكا، المستمرّة كوطن واحد بالرغم من تعقيدات مسألة الهويّة فيها) ويفشل في أحيان أخرى. والحال أن مآلات دول إثنو–فدراليّة كالإتّحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا، غالبًا ما تستخدم كدليل على فشل النظام اللإثنو–فدرالي. ولكن هذه الدول كلّها كانت تعيش في ظلّ أنظمة شيوعيّة، حيث السلطة الحقيقيّة بيد الحزب الحاكم، تمارسها نخبته بطريقة غير ديموقراطيّة. بمعنى آخر، كانت هذه الدول فدراليّة بالإسم، ومركزيّة لجهة الممارسة الحقيقيّة للسلطة. ثمّ أن هذه الدول كانت تعاني من فشل أنظمة الإنتاج الشيوعيّة بتحقيق الرخاء الاقتصادي، وتمرّ بأزمات خانقة في الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم هي أزمات التحوّل من الاقتصاد الموجّه، الى إقتصاد السوق الحرّ.

مواضيع ذات صلة