بخصوص الفدراليّة ومقولة "لبنان الرسالة"

لماذا نحن فدراليّون (8/23): بخصوص الفدراليّة ومقولة

غالبًا ما يُقال لنا عندما ندافع عن الفدراليّة إنّنا نتخلّى عن رسالة لبنان. الحقيقة أنّنا نعلم أنّ لبنان أكثر من وطن كما يفترض، بل رسالة، بحسب الشعار الشهير للبابا يوحنّا بولس الثاني. يحقّ لنا أن نسأل: لماذا يتعارض النظام الفدرالي مع رسالة لبنان؟ والأهمّ: ما هي هذه الرسالة تحديدًا؟ ربّ قائل طبعًا إنّ لبنان رسالة عن إمكانيّة التعايش بين مسيحيين ومسلمين في بلد واحد. البابا الراحل نفسه أراد الرسالة المفترضة للبنان أن تكون مبنيّة على احترام الحريّات، والتعددّية. وهذا بذاته عظيم، طبعًا. ولكن، إذا كان ثمن المشروع اللبناني مئة عام من التوتّر الطائفي والحروب الأهليّة المتناسلة والمآسي، وصولًا إلى الدولة الفاشلة التي نعيش فيها حاليًا، أليس هذا الثمن كبيرًا كي يدفعه اللبنانيّون، جيلًا بعد جيل، من أجل "الرسالة"؟ والحال أنّ الصراع اللبناني–اللبناني ولد مع ولادة الجمهوريّة اللبنانيّة عام 1920 . في مرحلة الحكم الفرنسي، لم يتّفق اللبنانيّون على موقف موحّد من الانتداب، ولا أساًسا اتّفقوا على فكرة قيام لبنان عندما قام. بالعشرينات، حدثت مجازر طائفيّة بجنوب الدولة الوليدة، استهدفت قرًى مسيحيّةً اتُّهمّت بالتعاون مع الفرنسيّين. لاحقًا، انقسم اللّبنانيّون وتقاتلوا مرّة، ومرّتين، وعشرة. واعتبارًا من العام 2005، سيطر حزب اللّه تدريجيًّا على البلد، ووصلنا إلى انهيار لبنان الإقتصادي، وانفجار 4 آب. هذا هو تاريخنا، فأيّ رسالة تحديدًا ممكن له أن يقدّم؟ وإذا كان ضروريًّا أن يموت مئات آلاف من الناس لنبرهن أنّ "لبنان رسالة"، فربّما لا يكون شعار لبنان الرسالة سوى كليشيه آخر متداول في خطابنا السياسي الغني بالشعارات، والفقير بالمضمون. الفدراليّة، بالمقابل، ليست شعارًا وكليشهيّات فارغة. الفدراليّة مدخل من مداخل الحلّ.

لا تعارض، أيضًا بين الفدراليّة ووحدة لبنان. المعادلة التالية صحيحة في كلّ مكان من العالم: الفدراليّة تفيد الجماعات كلّها في المجتمعات التعدديّة، بغضّ النظر عن لعبة الأعداد والأحجام الديموغرافيّة. مثلًا، صحيح أنّ الفدراليّة في كندا تعطي ضمانات للأقليّة الفرنكفونيّة، ولكنّها لا تسيء بالضرورة الى الغالبيّة الأنغلوفون. الفدراليّة في بلجيكا تضمن حقوق الوالون، ولكنّها لا تضطهد بالضرورة الفلامند، وهكذا. والحال أنّ رفض الفدراليّة عامّةً يستبطن وعيًا أكثريًّا يحتقر الأقليّات. مثلًا، في العراق النخب الكرديّة طالبت تاريخيًّا بالفدراليّة، والنخب الحاكمة العربيّة ظلّت تصرّ على أكثر درجة ممكنة من الحكم المركزي، إلى أن بدأ الأكراد يطالبون بالتقسيم. في الهند بعد الاستقلال، طالبت النخب المسلمة بالفدراليّة، والنخب الهندوسيّة رفضت، فدفعت المسلمين دفعًا إلى الانفصال وإنشاء باكستان. ومنذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، طالبت نخب عربيّة بالحكم الذاتي وبحقوق لغويّة وثقافيّة، أي بشكل من أشكال الفدراليّة في ظلّ العرش العثماني، ولكنّ المتطرفيّن الأتراك الطورانيّين رفضوا. كلّ تجارب المجتمعات التعدديّة تدلّ على ما يلي: المتطرّف الحقيقي، والتقسيمي الحقيقي، هو من لا يبالي بقضايا الأقليّات لأنّه يحتقرها. من ينكر أنّ للأكراد كأقليّة قضيّة محقّة في العراق، أو الأقليّة العربيّة في إيران، أو المسيحيّة في مصر، هو الطائفي والتقسيمي، لا سواه. ولو يغطّي هذا المتطرّف كراهيّته الطائفيّة بشعار علمانوي أو توحيدي، لا يجعل هذا منه علمانيًّا أو توحيديًّا، بل كذّابًا، إضافةً إلى كونه طائفيًّا.

والحال أنّ التنكّر لمسألة الأقليّات والسعي لطمسها عبر هذه أو تلك من الإسقاطات الإيديولوجيّة –كمحاربة اسرائيل مثلًا؛ أو "التصدّي" للغرب؛ أو مشاريع الوحدة المختلفة، وعموم الطروحات العابرة للحدود– يدفع المجتمعات إلى الاستقطاب، والجماعات المغبونة إلى التفكير في الانفصال. والانفصال هو الجواب الطبيعي والشرعي لأي ّ مجموعة لا يحترم شركاؤها المفترضون بالوطن هويّتها. فكّر، مثلا، بفرض جعفر النميري للشريعة الإسلاميّة على السودان عام 1983، مع أنّ جنوب السودان يتكوّن بغالبيته من العناصر المسيحيّة والإحيائيّة. ردّ فعل الجنوب جدّد الحرب الأهليّة في السودان وأطلق مسارًا انتهى بإعلان استقلال جنوب السودان عام 2011. إنشاء باكستان عام 1947، أو بنغلادش عام 1971، أمثلة مشابهة بمعنى أنّها نتيجة عدم احترام نخب حاكمة أكثريّة لهويّة الأقليّة. نطالب بالفدراليّة لأّننا نؤمن أنّ الانفصال ليس نتيجة حتميّة للتعدديّة المجتمعيّة كما يظهر النموذج الكندي. في العام 1995، طالب قوميّون في الكيبيك بالانفصال عن كندا وبتشكيل دولة مستقلّة. وفي استفتاء أُجري في ذلك العام، صوّتت الغالبيّة في الكيبيك ضدّ الانفصال ولصالح البقاء في كندا. النظام الفدرالي في كندا حافظ على وحدتها وجنبّها انفصال الكيبيك. بمعنى آخر: الفدراليّة في كندا أراحت الأقليّة، فما عادت تطالب بتكوين دولة خاصّة بها. الخلط، تاليًا، بين المطالبة بالفدراليّة والمطالبة بالانفصال أو التقسيم مؤسف، ومشبوه أيضًا. وتهمة التقسيم والطائفيّة التي تلحق بالفدراليّين هي بدورها تهمة مردودة لأصحابها.

مواضيع ذات صلة