بخصوص الفدراليّة والحياد

لماذا نحن فدراليّون (9/23): بخصوص الفدراليّة والحياد

نحن مع الحياد بدون تحّفظ، ولا نراه طرحًا بديلًا عن الفدراليّة، بل توأمًا لها. بالحقيقة، نحن مع الحياد بقدر ما نحن مع الفدراليّة، لا بل حتى أكثر. بمعنى آخر، نحن مع معادلة: حياد+فدراليّة. كما ذكرنا تكرارًا، الفدراليّة طريقة من طرق إدارة التعدّديّة المجتمعيّة، فضلًا طبعًا عن كونها خريطة طريق لحوكمة أفضل. الحياد بدوره ملحّ لكفّ شرّ المحيط عنّا، ولكي لا نُستخدم مجدّدا، كما استُخدمنا دومًا ونُستخدم اليوم، كساحة لتصفية الحسابات الإقليميّة. الحياد ضروري، كما الفدراليّة ضروريّة، وطرحنا عمليًّا حيادو–فدرالي.

الطائفيّون في لبنان يسمون الحياد بتهم "الإنعزال" و"الإستعلاء" وسائر الهراء القديم–الجديد، المأخوذ من أدبيّات المارونوفوبيا المحليّة. بالحقيقة، لا علاقة للحياد بكلّ هذا. بكلّ بساطة، الدولة المحايدة كيان يمتنع عن المشاركة في الحروب الدوليّة والتحالفات العسكريّة. عند وقوع نزاعات مسلّحة، تمنع الدولة المحايدة المتصارعين من استعمال أراضيها عسكريًّا. كما تعامل الدولة المحايدة هذه الأطراف على قدم المساواة، أي تتجنّب ما يغيّر موازين القوى بينها. بالمقابل، يُفترض بالأطراف المتصارعة الامتناع عن دخول أراضي الدولة المحايدة، أو السعي للهيمنة عليها. كما يفترض فيها الامتناع عن تجنيد أو تمويل جماعات داخلها لغايات سياسيّة. هذا كلّ شيء. أين "الانعزال" في هذا؟ أين "الاستعلاء"؟ دول مثل سويسرا والنمسا وإيرلندا والسويد ومالطا وتركمانستان والفاتيكان محايدة، وهذا بالظبط ما نريده للبنان. خيانة عظمى؟ تآمر خبيث على الأمّة الغرّاء؟ لا نظنّ.

وكما هو معلوم، طالب البطريرك الماروني بشارة الراعي مؤخرًا بإعلان حياد بلدنا، وقوبل فورًا بردّ سلبي من قيادات إسلاميّة، كان أوضحها القيادات الشيعيّة، كالشيخ عبد الأمير قبلان، والمفتي أحمد قبلان. نأسف لهذا الردّ السلبي ونذكّر بما يلي: أوّلًا، محاولات الهيمنة الإقليميّة تتالت على لبنان منذ كان. لو كان محايدًا، لكان أسهل عليه مقاومة التدخّل بشؤونه، ومشاريع الضمّ، أو الاستتباع. ثانيًا، هذه المشاريع سعّرت المشاعر الطائفيّة في لبنان. الموقف من السلاح الفسلطيني مثلًا، قسم لبنان على أساس طائفي. الموقف من إيران اليوم يقسم لبنان على أساسين طائفي، ومذهبي. لو كان لبنان محايدًا، كان أسهل عليه تجنّب الإستقطاب الطائفي. تاليًا، الحياد مصلحة لبنانيّة خالصة. رفض الحياد أكبر جريمة يمكن ارتكابها بحقّ لبنان – ولا عجب أن يكون رافضو الحياد من عتاة أعدائه وكارهيه.

قد يكون من المفيد هنا التوقّف عند المقارنة التالية: في العام 1952، انقسم لبنان بين مؤيّد لرئيس الجمهوريّة آنذاك الشيخ بشارة الخوري ومعارض له. وبالنتيجة، قامت ثورة في البلد، ولكنّها بقيت سلميّة، وانتهت باستقالة الشيخ بشارة وانتقال الرئاسة إلى كميل شمعون. بعدها بستّ سنوات، انقسم لبنان مجدّدًا بين مؤيّد ومعارض لرئيس الجمهوريّة، وقامت ثورة جديدة، ولكنّها هذه المرّة لم تبق سلميّة، وتفاقمت الأوضاع إلى أن بدأت الحرب اللبنانيّة الأهليّة الأولى عام 1958. السؤال هنا هو الآتي: إذا كان اللّاعبون تقريبًا هم ذاتهم بين ثورة 1952 و1958، وإن كان الخلاف تمحور في الحالتين حول رغبة رئيس جمهوريّة بتمديد ولايته، فلماذا بقيت ثورة ال1952 سلميّة، بينما وقعت الحرب عام 1958؟ الجواب هوّ أنّ المشهد الإقليمي عام 1958 كان تغيّر تمامًا بعد صعود الأنظمة الراديكاليّة العربيّة على حساب القوى المؤيّدة للغرب في مصر والعراق وسوريا. وبمجرّد أن تصاعد التوتّر الإقليمي، تصاعد أيضًا الإستقطاب الطائفي في لبنان، وصولًا الى الحرب. نكتب هذه الكلمات في العام 2021 والصراع الإقليمي على أشدّه، خصوصًا بين السعوديّة وإيران. ترجمة الصراع الإقليمي فرزت مجدّدًا استقطابًا طائفيًّا حادًّا، وأزمة حكم مستمرّة منذ العام 2005 على الأقلّ. يعني كلّ ذلك ما يلي: في كلّ مرّة تتوتّر الأوضاع في الإقليم، ينقل هذا الإقليم التوتّر إلى لبنان. أمّا وأنّ الإقليم متوتّر دومًا، فلبنان لم يعرف الإستقرار منذ عقود. وأمّا وأنّ الإقليم يمكن أن يبقى متوتّرًا لعقود بعد، فمن مصلحة لبنان فكّ الإرتباط معه ما أمكن كي يتمكّن من الإهتمام بمشاكله الداخليّة. بالواقع، أيّ دراسة للتأثيرات الخارجيّة على بلدنا تظهر مدى الخراب الذي تسببّ الإقليم به عندنا. تاليًا، رغبتنا في كفّ شرّ الخارج عنّا حقّ طبيعي، لا أكثر أو أقلّ. تكرارًا: وصم هذا الموقف بالإنعزال أو الإستعلاء أو العنصريّة اللبنانيّة المفترضة هو تهمة بالية ورثاثة فكريّة آن لأصحابها تخطيّها.

مواضيع ذات صلة