بخصوص الفدراليّة والعلمنة وشعار الدولة المدنيّة

لماذا نحن فدراليّون (10/23): بخصوص الفدراليّة والعلمنة وشعار الدولة المدنيّة

ما هي العلمنة؟ باختصار، هي فصل الدين عن الدولة. هناك ثلاثة نماذج للدول العلمانيّة يمكن التوقّف عندها: في مقلب، العلمنة المتطرّفة في قمعها للدين (النموذج السوفياتي/الشيوعي)؛ في مقلب آخر، العلمنة الأنغلو-ساكسونيّة، التي تفصل الدين عن الدولة من دون قمع له أو للمؤسّسة الدينيّة؛ وبين الاثنين، نموذج علماني وسطي، إن صحّ التعبير، هو النموذج الفرنسي، الأكثر تشدّدا من النموذج الأنغلو–ساكسوني في فصل الدين عن الدولة، من دون أن يضطهد الدين أو المؤسّسة الدينيّة كما فعلت الأنظمة الشيوعيّة. فعليًّا، النموذج السوفياتي للعلمنة سقط مع سقوط المنظومة الشيوعيّة. يبقى النموذجان الفرنسي والأنغلو-ساكسوني، وفي كليهما الكثير من العبر الصالحة لبلادنا، وإن كنّا أكثر ميلًا في هذا الموضوع (وفي جلّ المواضيع الأخرى) إلى الليبراليّة الأنغلو–ساكسونيّة، أي إلى ضمان حياد الدولة تجاه معتقدات مواطنيها، مع تمييز نطاق عمل المؤسسات الدنيويّة عن المؤسسات الدينيّة، وضمان حقوق هذه وتلك، كلٌّ في مجال اختصاصه. هذا النوع من العلمنة هو ما كان البابا بيوس الثاني عشر أشار إليه وأيّده. وقد انتقد البابا في رسالة له نشرت في شهر آذار من العام 1958 الزاعمين أنّ الكنيسة ضدّ العلمنة بالمطلق، ملاحظًا: "وكأنّما علمانيّة الدولة المشروعة والصحيحة ليست مبدأً من مبادئ العقيدة الكاثوليكيّة الصحيحة".

لنكن واضحين: لا تعارض بين الفدراليّة والعلمنة، ونحن مع الطرحين. كندا وبلجيكا وسويسرا دول فدراليّة وعلمانيّة في آن. مؤسف أن ينقسم لبنان بين مدافع عن الفدراليّة، ومدافع عن العلمنة، كأنّ الأولى تنفي الثانية، أو العكس. العلمنة هي حلّ لمشكلة نزعة الأديان للسيطرة على الفضاء العام وعلى القوانين الناظمة للحياة العامّة. تقدّم الفدراليّة حلًّا للتحدّيات التي تطرحها التعدّديّة المجتمعيّة. يمكن، لا بل يجب، للطرحين أن يتكاملا. نحن في لبنان الفدرالي لا نستسيغ تدخّل الدين ورجاله في الفضاء العام، أي أن مقاربتنا لعلاقة المقدّس بالدنيوي علمانيّة؛ كما نحن مقتنعون بالوقت عينه أنّ المجتمعات التعدّدية تحتاج لنوع من أنواع الفدراليّة لتستقرّ أمورها. لا تعارض بين المنحى الأوّل والثاني. ومع ذلك، نقول إنّ تصوير العلمنة كحلّ للبنان سوء فهم لها، ولطبيعة المشكلة اللبنانيّة.

لنكن واضحين بعد أكثر: عندما تنقسم المجتمعات بين قائلين بفصل الدين عن الشأن العام، وقائلين بالعكس، تأتي العلمنة لتنصر الفكرة الأولى على الثانية. الصراع بين كاثوليك فرنسا وعلمانيّيها مثل كلاسيكي في هذا الإطار. ولكن، عندما تنقسم المجتمعات على أساس الهويّة الطائفيّة أو العرقيّة أو اللغويّة، لا تعود العلمنة هي الحلّ. استطرادًا، القول إنّ العلمنة حلّ لمشاكل لبنان يحيد عن الصواب للأسباب التالية: 1) محور الخلاف في لبنان هو الهويّة الطائفيّة، لا القناعات الدينيّة. المسيحيّون في لبنان لا يريدون تحويل المسلمين الى كاثوليك مثلًا. المسلمون بدورهم لا يسعون لجعل الموارنة سنّة أو شيعة. الخلاف كان قائمًا ولا يزال على الخيارات السياسيّة الكبرى: مثلًا، هل نعطي المسلّحين الفلسطينيّين حريّة العمل الفدائي في أراضينا، وانطلاقا منها، أم لا؟ أو: هل ننحاز الى النظام أو الى المعارضة بالحرب السوريّة؟ هل الولايات المتّحدة صديق أم عدوّ؟ العلمنة لا تقدّم حلًّا لهذا النوع من الخلافات. 2) المملكة المتحّدة دولة علمانيّة، ولكن هذا لم يمنع عقودًا من الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا الشماليّة. بلجيكا وكندا أيضًا دولتان علمانيّتان، ولكن هذا لم يلغ التوتّر بين الوالون والفلامند، أو الأنغلوفون والفرنكوفون. هذه الدول طبعًا اعترفت بتعدديتها المجتمعيّة، وأدارت تنوّعها بالفدراليّة. 3) الأنظمة الشيوعيّة في الإتحاد السوفياتي السابق، أو يوغسلافيا تيتو، كانت علمانيّة. ولكن العلمنة لم تلغ الهويّات الطائفيّة الحادّة، ولا الصراعات بين الأرمن والأذريين مثلًا، أو الصرب والكروات والبوسنيّين. إن لم تقدّم عقود من العلمنة الحلّ لمسألة الهويّة هناك، فلماذا هي الحلّ عندنا؟ لكلّ هذه الأسباب ولسواها، فكرة أنّ العلمنة هي المخرج للبنان غير دقيقة. هذا لا يمنع طبعًا أنّ العلمنة بذاتها مشروع ممتاز، وخطوة تدفع المجتمعات الى الأمام. ولكن حلّ مشاكلنا الأساسيّة ليس بالعلمنة، أو على الأقلّ، ليس بالعلمنة وحدها. واستطرادًا: تراجع التجربة العلمانيّة في تركيا، وصعود المدّ الإسلامي في إيران وعموم الدول العربيّة لا يوحيان أنّ العلمنة قريبة، تقرع على أبواب منطقتنا ووطننا.

نسجّل هنا أنّنا، مع تأييدنا للعلمنة، نستغرب طرح البعض تحويل لبنان الى "دولة مدنيّة". سبب استغرابنا بسيط: من جهة، الحكم المدني هو عكس الحكم العسكري؛ ومن جهة ثانية، الحكم المدني هو أيضًا عكس الحكم الديني. لبنان ليس نظامًا عسكريتاريًّا (مثل مصر أو الجزائر) وليس دولة ثيوقراطيّة، كي يطالب البعض بتحويله الى دولة مدنيّة. استطرادًا، الدستور اللبناني لا يحدّد للدولة دينًا رسميًّا، كما لا يجعل دستورنا من أيّ شريعة دينيّة مصدر التشريع. ماذا يعني الحكم الثيوقراطي؟ ثيوس بالاغريقيّة تعني اللّه. الثيوقراطيّة (Theocracy) تعني حكم اللّه أو الحكم الديني. فكّر بنظام آيات اللّه بإيران مثلًا، حيث السلطة العليا في الدولة هي بيد رجال دين غير منتخبين، وحيث الإسلام هو المنظومة القيميّة التي من خلالها تستمدّ النخبة الحاكمة مشروعيّتها. بمقابل الثيوقراطيّة، أي حكم اللّه، الديموقراطيّة (Democracy) التي تعني حكم الشعب (أي ديموس) بالأصل الإغريقي. للديموقراطيّة أسس مختلفة، أهمّها اثنين: 1) الديموقراطيّة نظام حكم مدني، أساس شرعيّة النخبة الحاكمة فيه هي إرادة الشعب، لا إرادة اللّه. 2) السلطة التنفيذيّة بالأنظمة الديموقراطيّة تصل إلى الحكم عبر انتخابات دوريّة وتنافسيّة. بهذا المعنى، الجمهوريّة اللبنانيّة، منذ نشأت، هي دولة ديموقراطيّة مدنيّة، أقلّه لجهة فلسفتها الدستوريّة. طبعًا، أن يكون لبنان دولة مدنيّة لا يعني أنّ نظامه علماني. للنظام العلماني بدوره شروط عدّة، منها مثلًا أن يحدّد القانون الوضعي، لا الشرائع الدينيّة، قضايا الأحوال الشخصيّة. يعني، بالنظام العلماني، القوانين الناظمة لقضايا الزواج والطلاق والإرث وما شاكل، هي قوانين وضعيّة مصدرها السلطة التشريعيّة، لا النصوص المقدّسة والسلطات الدينيّة. وهذا طبعًا ليس الحال في لبنان، حيث تنجح السلطات الدينيّة في كلّ مرّة في عرقلة أي خطوة الى الأمام لجهة علمنة أحوالنا الشخصيّة، بدءًا بالزواج المدني الاختياري. باختصار، لبنان دولة مدنيّة، غير ثيوقراطيّة، وغير علمانيّة. المطالبة بعلمنة البلد هدف نبيل. بالمقابل، المطالبة بتحويله، وهو المدني أصلًا، لدولة مدنيّة، شعار يرفعه من يسعون بشكل غير مباشر الى إلغاء الطائفيّة السياسيّة، أيّ الى تحكيم لعبة العدد برقاب اللبنانيّين. للتذكير فقط: رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي مع إلغاء الطائفيّة السياسيّة، وضدّ طرح الزواج المدني الإختياري. في الأمر عبرة لا تُخفى على أحد. بالحقيقة، المسلمون من رافعي طرح إلغاء الطائفيّة السياسيّة هم من عتاة الطائفيّين. المسيحيّون من مؤيّديه من عتاة الذميّين.

مواضيع ذات صلة