الفدراليّة والخطّ اللبناني السيادي الجديد

لماذا نحن فدراليّون (18/23): الفدراليّة والخطّ اللبناني السيادي الجديد

يحتاج لبنان لعصب ظهّره مقاتلون لبنانيّون أشدّاء في خضم الأزمات. يُدعى اللّاعبون في هذه المنطقة من العالم حافظ الأسد والخميني وياسر عرفات وبشّار الأسد والخامنئي، وسواهم. هؤلاء لا يمارسون السياسة وفق قواعد القانون الدولي العام واتفاقيّات جنيف لحقوق الانسان. اختلفوا ويختلفون حول الكثير طبعًا، ولكنّ الجامع بينهم كلّهم هو الطمع بلبنان، واستسهال استخدامه ولو سالت دماء أبنائه نهرًا. لا اعتذار لأنّنا كلبنانيّين واجهنا هذا النوع من اللّاعبين، وبالعنف إذا لزم الأمر. للتذكير فقط: بلادنا منذ كانت في موقع المعتدى عليه في وسط داره. هل اجتاح لبنان مرّة بلادًا أخرى؟ هل اغتالت الأجهزة اللبنانيّة زعيمًا سوريًّا أو إيرانيًّا مثلًا، كما ذُبح بشير الجميّل أو حسن خالد أو رفيق الحريري أو عشرات القادة اللبنانيّين الآخرين، في عقر دارنا؟ الجواب أن لا طبعًا. ثمّة مسألة حيويّة أصابت فيها قوى كالكتائب والأحرار والقوّات في لبنان، عنينا الحساسيّة السياديّة العالية التي ميّزتها عن سواها. نحن استمرار طبيعي لهذه الناحية منها، ولا نريد لها أن تتغيّر. ونحن، أيضًا، نختلف عنها بما يلي:

1)بعد مئة عام من العيش معًا، صار الكثير من المسلمين لبنانيّين شعوريًّا، لا فقط تقنيًّا. هذا لا يعني أنّهم باتوا كذلك كلّهم. لا تزال الهويّات العابرة للحدود تحول دون استكمال تحوّل قسم منهم باتّجاه اللّبننة. ولكن قسمًا آخرًا صار لبنانيًّا فعلًا، وتحديدًا، سياديّاً وحياديًّا وفدراليًّا. أمّا وأنّ المشكلة ليست إيمانيّة بل سياسيّة، فمكان من يفكّر بالسياسة مثلنا معنا في لبنان الفدرالي، بغضّ النظر عن سرديّته الدينيّة. منذ لحظتنا التأسيسيّة الأولى، كان لبنان الفدرالي مفتوحًا لهم، وسيبقى كذلك، بدءًا –لم لا؟– برأس الهرم الحزبي.

2) تعاطى من سبقنا من السياديّين بتردّد مع مسألتي الحياد والفدراليّة. تطفو هذه المواضيع على السطح وقت الأزمات، ثمّ تختفي بسحر ساحر. ثمن هذا النوع من الخفّة كان غاليًا ... جدًّا. لا بدّ هنا من قطيعة مع الخفر في طرح المسألتين. استطرادًا، سيتعاطى لبنان الفدرالي مع الحياد والفدراليّة بصفتهما الوجه الآخر للمسألة السياديّة: زمن الرماديّة، والتردّد بطرح الخيارات الكبرى ينتهي معنا.

3) القوى السياديّة القديمة شخصانيّة وغير مؤسساتيّة. تتحلّق حول الزعيم–الطوطم، وتموت بموته. الكتلة الدستوريّة والكتلة الوطنيّة أوّل تجربتين حزبيتيّين في الجمهوريّة اللبنانيّة. ماذا بقي من الأولى بعد وفاة بشارة الخوري؟ ماذا بقي من الثانية بعد نهاية زعامة آل إدّه؟ ماذا بقي من الشهابيّة بعد فؤاد شهاب؟ ماذا بقي من الأحرار بعد وفاة الرئيس كميل شمعون، وكم بقي من الكتائب بعد رحيل بيار الجميّل؟ نفس الاسئلة صحيحة بالنسبة للقوى اللّاحقة المنبثقة من هذه الأحزاب. وتمامًا كما أنّ التعاطي المزاجي مع الطرح الحيادو–فدرالي خفّة على مستوى الخيارات، الشخصانيّة خفّة على مستوى بناء الحزب. ثمن الخفّة في هذه المسألة كان غاليًا بدوره. في لبنان الفدرالي، سيبقى رئيس الحزب في موقعه لولاية واحدة غير قابلة للتجديد، أو لولاية قابلة للتجديد مرّة واحدة، والسلام. استطرادًا: لا مكان في لبنان الفدرالي لإبن الزعيم أو لزوجته أو لصهره، وأساسًا لا مكان للزعيم نفسه. رأس الهرم موظّف لدى القاعدة الحزبيّة، تستبدله دوريًّا. هذا كلّ شيء.

4) لم تعطِ القوى السياديّة القديمة المسألة الإقتصاديّة–الإجتماعيّة الإهتمام الذي تستحقّ. هذا خطأ لأنّ الناس لا تأكل وتشرب سيادة. المسألة هنا أكثر من رفع شعار، أو توزيع إعاشة. المسألة أن يكون ثمّة خطّة جديّة لتوسيع الطبقة الوسطى، وتوزيع الثروة، وتحقيق التنمية في المناطق الطرفيّة الأكثر فقرًا. يكاد بعض أهلنا يصابون بعارض صحّي لمجرّد أن نذكر أمامهم أمورًا كالعدالة الإجتماعيّة لأنّها تستحضر عندهم اليسار، ولأنّ اليسار يستحضر بدوره صورًا مؤلمة من الحرب. نتفهّم حساسيّة هذه المسألة. ومع ذلك، لبنان الفدرالي سيكون منحازًا بوضوح ومن دون عقد إلى الفئات الإجتماعيّة التي سحقتها سياسات مَركزة الثروة والفساد المعمّم. عندما نتخيّل نظامًا ضريبيًّا جديدًا، مثلًا، نراه تصاعديًّا وبحسب الدخل. لنقل، اختصارًا، أنّ للبنان الفدرالي وعيًا إجتماعيًّا حادًّا، وأنّ زمن الخلط بين العدالة الاجتماعيّة والكوفيّة الفلسطينيّة انتهى.

5) السياديّون القدامى مفرطون عمومًا بالمحافظة الإجتماعيّة. لبنان الفدرالي ليس كذلك. في المسألة الجنسيّة، مثلا، ننطلق من مسلّمة أنّنا لن نكون أحرارًا كمجتمع في خياراتنا السياسيّة، إن لم نكن أحرارًا كأفراد في حياتنا الجنسيّة. الهوموفوبيا لا مكان لها بيننا. ولا للذكوريّة مكان أيضًا. التديّن خيار شخصي للمحازبين كأفراد، لا علاقة للحزب كمنظّمة به. وعندما سنؤدّي قسم الانتماء، سنحلف "بشرفي" لا "باللّه"، كي لا نحول بيننا وبين أيّ ملحد أو مشكّك يشاركنا أفكارنا.

باختصار: القوى السياديّة القديمة دافعت عن لبنان. لولاها ما بقيت البلاد. لبنان الفدرالي يريد أن يدافع عنها ويطوّرها أيضًا. نحن، كمن سبقنا من قوى الخطّ اللبناني، سياديّون، بمعنى أنّ كلّ شيء يبدأ عندنا بالسيادة. ولكنّ السيادة ليست كلّ شيء. نريد بلادًا قويّة في منطقة لا تفهم أو تحترم غير القوّة. ولكنّنا لا نريد مجتمعًا قاسيًا على الضعيف فيه، سواء كان ذلك لفقره، أو لقناعاته الدينيّة (أو اللادينيّة)، أو لجندره، أو لاتّجاهاته الجنسيّة. باختصار: نحن مع ثنائيّة وطن قوي/مجتمع رحيم. وباختصار أيضًا: نحن لبنانيّون، وفدراليّون، وليبراليّون بدون تحفّظ.

مواضيع ذات صلة