لماذا نحن فدراليّون (20/23): بخصوص أنّ الوطنيّة اللبنانيّة بيت بمنازل كثيرة
تذهب بعض النظريّات إلى أنّ اللّبنانيّن شعوب أو قوميّات أو حضارات مختلفة موجودة على أرض واحدة. لكلّ هذه المجموعات سرديّتها ومصالحها المختلفة عن الأخرى. الحلّ، تاليًا هو باتّحاد كونفدرالي، أو بطيّ صفحة لبنان الكبير والإنفصال التامّ.
تنحو نظريّات أخرى إلى نفي وجود هويّات طائفيّة متباينة في لبنان، أو للمراهنة على زوالها لمصلحة انتماءات أخرى "أسمى" طبقيّة أو وطنيّة لبنانيّة أو قوميّة أو مزيج مّما سبق. الحلّ، تاليًا، بالعلمنة أو بالغاء الطائفيّة السياسيّة أو بسائر النظريّات الأخرى التي أوضحنا موقفنا منها في ما سبق.
نزعم بالمقابل ما يأتي:
1) الهويّات المجتمعيّة متحرّكة ومعقّدة. عندما نشأ لبنان، رفضه المسلمون عمومًا. كان ذلك قبل مئة عام. لا يعني هذا اليوم أنّ كلّ المسلمين ضدّ لبنان كما كان أجدادهم. للتذكير: في خلال عاميّة 17 تشرين، تسربلت طرابلس بالأعلام اللبنانيّة بطريقة عفويّة. لم يجبر أحدٌ أهاليها على رفع أعلام لبنان، أو إضاءة الساحات بألوان العلم اللبناني. كتلة الزعامة السنيّة الأولى في لبنان تدعى "لبنان أوّلًا". خطاب الزعيم الطرابلسي السنّي الجنرال أشرف ريفي شديد الوضوح في سياديّته ولبنانيّته. بالحقيقة، رئيس الوزراء اللبناني الراحل شفيق الوزّان كان وطنيًّا لبنانيًّا غيورًا، وكذلك قبله الرئيس سامي الصلح. بعد مئة عام على قيام لبنان، بات قسم معتبر من المسلمين متماهيًا مع الكيان اللبناني. نرفض التشكيك بوطنيّتهم، لا من منطلق "المسايرة" على الطريقة اللبنانيّة، بل لأنّنا نصدقّهم عندنا يقولون بلبنانيّتهم.
2) بالمقابل، الهويّة اللبنانيّة الجامعة لا تلغي التمايزات بين الطوائف. فكّر، مثلًا، في حرب ناغورنو-كاراباخ بين الأذريّين والأرمن: هل يتفاعل اللبنانيّون-الموارنة أو اللبنانيّون-الدروز، مثلًا، كما يتفاعل معها اللبنانيّون-الأرمن؟ فكّر في القدس والمسجد الأقصى: هل يتفاعل اللبنانيون-المسيحيّون مع ما يحصل هناك كما يتفاعل اللبنانيّون-المسلمون عمومًا؟ الجواب أن لا، ببساطة شديدة. لا حياء في الأمر أو خجل. علاقة الكنديّين-الفرنكوفون في الكيبيك مع فرنسا واللغة الفرنسيّة بدورها غير علاقة الكنديّين-الأنغلوفون معها. الأمر عينه صحيح، مثلًا، بالنسبة إلى السويسريّين-الفرنكوفون، مقارنةً مع السويسريّين-الجرمانوفون، وهكذا. واحدة من المشاكل التاريخيّة للعقل السياسي في المحيط العربو–إسلامي رفضه الطوائف بحجّة الحفاظ على وحدانيّة الأمّة. ولكن هذه الوحدانيّة المفترضة وهمٌ لم يعِش يومًا سوى في مخيّلة أصحابه. المجتمعات دومًا تعدديّة؛ أمّا المجتمعات الحديثة، فهي تعدديّة بعد أكثر بحكم العولمة وموجات الهجرة والإختلاط السكّاني والمؤثرات الثقافيّة العابرة للحدود.
ما خلاصة كلّ ما سبق؟ هي الآتية: 1) نعم، نحن لبنانيّون، باستثناء من تماهى صراحةً مع عقائد أنتي-لبنانيّة، كأنصار الحزب السوري القومي الإجتماعي، أو أنصار حزب التحرير، أو أنصار الوليّ الفقيه. 2) هذا الإنتماء اللّبناني الجامع، لا يلغي تمايزات طوائفيّة حقيقيّة بين اللبنانيّين. ولا هذه التمايزات بدورها تلغي الإنتماء اللّبناني الجامع. هويّاتنا مركبّة، والوطنيّة اللبنانيّة بيتٌ بمنازل كثيرة. لسنا المجتمع التعدّدي الوحيد في العالم، ومشاكلنا ليست بدون سوابق في التاريخ. الحلّ لإدارة المجتمعات التعدديّة بات معروفًا وشديد الوضوح: شكل من أشكال اللامركزيّة السياسيّة والإداريّة والماليّة، أي شكل من أشكال الفدراليّة.