لماذا نحن فدراليّون (7/23): كيف تختلف الفدراليّة عن الإثنو- فدراليّة والحكم المركزي؟ (2)

أن تفشل الإثنو–فدراليّة في دول معيّنة ومعطيات تاريخيَة محدّدة (كما ذكرنا سابقًا، فكّر في يوغوسلافيا، أو تشيكوسلوفاكيا)، لا يعني بالضرورة أنّ فشلها محتّم في معطيات أخرى. في يوغوسلافيا، ينبغي الانتباه الى الرواسب التاريخيّة السابقة لتبنّي النظام الإثنو–فدرالي كمعطى أساس لا يمكن تغييبه عند تشريح مسار الأمور. مثلًا، العلاقات بين الصرب والكروات كانت مأزومةً أصلًا حتّى عندما كانت يوغوسلافيا مملكة تتّبع نظامًا مركزيًّا. عندما تغيّر شكل النظام لاحقًا، ورثت الدولة اليوغوسلافيّة الجديدة المشاكل القديمة، ولم تنجح بحلّها عبر الإثنو–فدراليّة. هذه النقطة تستحقّ التكرار: قبل أن تفشل الإثنو–فدراليّة بإدارة التنوّع في يوغوسلافيا، فشل النظام المركزي فيها أيضًا. هناك دول لا ينفع أيّ نظام حكم بإدارة تعقيداتها. وجودها أصلًا فكرة عاطلة.

يوغوسلافيا نموذجًا: من فشل النظام المركزي الى فشل الإثنو-فدراليّة

نشأت المملكة اليوغوسلافيّة عام 1918 كتجمّع للصرب والكروات والسلوفين، وكان الاسم الرسمي لها "مملكة الصرب، والكروات، والسلوفين". من الأساس، كان الصرب هم العنصر الطاغي والحاكم. إعترضت نخب الجماعات الأخرى على الشكل المركزي للدولة، وطالبت بالكونفدراليّة، أو الانفصال التامّ. ردّ الملك الصربي ألكسندر على مطالب الكروات باتّباع سياسة مركزيّة صارمة حفاظًا على وحدة المملكة. حاول أيضًا خلق هويّة جديدة يوغوسلافيّة عابرة للطوائف التي رأى ضرورة دمجها لتشكيل هويّة جديدة، هي الهويّة اليوغوسلافيّة. هكذا أعاد تسمية بلاده "المملكة اليوغسولافيّة"، ومنع كلّ الأحزاب الدينية أو الجهويّة أو الإثنيّة، وأعاد تشكيل النظام التربوي للترويج لفكرة الجذر المشارك لكلّ اليوغوسلافيّين، وللوحدة الوطنيّة. بمقدار ما استمرّت هذه السياسة، تصاعد الاعتراض الكرواتي خصوصًا، الذي رأى في فكرة "يوغوسلافيا" غطاءً واهيًا لحقيقة السيطرة الصربيّة على الدولة. وتفاديًا للحرب الاهليّة، قبل القادة الصرب عام 1939 التراجع عن سياسة الانصهار الوطني لمصلحة الإعتراف بالتعدّدية، والانتقال من الدولة المركزيّة الى الإثنو–فدراليّة. ومع وقوع الحرب العالميّة الثانية، واحتلال يوغوسلافيا من قبل ألمانيا النازيّة، نظّم جوزيف بروز تيتو حزبه الشيوعي المقاوم للاحتلال على أساس إثنو–فدرالي، وتعهّد ببناء الدولة، بعد التحرير، على أساس إثنو-فدرالي أيضًا. هذا ما حدث فعلًا، لكنّ الخلافات بين الصرب والكروات استمرّت، وتصاعدت بعد محاولة الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش تقوية السلطة المركزيّة على حساب الولايات الفدراليّة، وصولًا إلى الحرب الأهليّة عام 1992، وتشظّي يوغوسلافيا، بعد انفصال مكوّناتها. بهذا يكون تاريخ يوغسلافيا عبارة عن فشلين: فشل النظام المركزي، ثمّ فشل الإثنو–فدراليّة، بإدارة التعدّية. كلّف الفشلان ثمانية عقود فيها ما فيها من الصراع، والحروب، والمآسي. هل كان ينبغي أن تقوم يوغوسلافيا أصلًا؟

تشيكوسلوفاكيا نموذجًا : من فشل النظام المركزي الى فشل الإثنو - فدراليّة

نشأت تشيكوسلوفاكيا عام 1918 كتجمّع لقوميّتين، التشيك والسلوفاك، وقامت أساسًا كدولة مركزيّة. رفض العنصر الطاغي، أي التشيك، مطالب الفدرلة أو الاستقلال الذاتي، خوفًا لا فقط من انفصال السلوفاك، بل أيضًا، من أن تنحو الأقليّات الأخرى (أي الألمان، والمجريّين)، نحوًا مشابهًا. ومع تفرّد النخبة التشيكيّة بإدارة الدولة، تمّ استبعاد الأحزاب "الطائفيّة" السلوفاكيّة أو الألمانيّة أو المجريّة باعتبارها تمثّل تطلّعات غير مقبولة تهدّد وحدة الدولة. افترضت الإيديولوجيا الحاكمة أنّه من الممكن دمج العناصر المكوّنة لتشيكوسلوفاكيا في بوطقة وطنيّة واحدة، عبر رفع مستوى تعليم السلوفاك ليلحقوا بالتشيك المتقدّمين عنهم. حقّقت هذه السياسة نتائج طيّبة على الصعيد التربوي، ولكن سرعان ما تبيّن أن الأجيال الجديدة المتعلّمة من السلوفاك أكثر شعورًا بهويّتهم السلوفاكيّة القوميّة من الأجيال السابقة. وفي العام 1938، اضطّرت النخبة التشيكيّة الحاكمة للتراجع عن سياستها والاعتراف بالهويّة السلوفاكيّة، وتغيرّ اسم البلاد الى تشيكو–سلوفاكيا. ثمّ كان أن غزت ألمانيا النازيّة البلاد، وأعلنت استقلال سلوفاكيا. بعد الحرب العالميّة الثانية، اضطرّت النخبة التشيكيّة للاعتراف بالسلوفاك بصفتهم "أمّة سيّدة مستقلّة"، وعادت تشيكوسلوفاكيا إلى الوجود كإطار إثنو–فدرالي يجمع بين قوميّتين مستقلّتين. ومع أنّ التسوية أعطت السلوفاك حقّ الفيتو على القرارات المهمّة التي تتخذها الدولة، استمرّ التوتّر بين القوميّتين – على خلفيّة اتجّاه تشيكي دائم لتقوية الحكومة المركزيّة على حساب الولايات الفدراليّة، واتّجاه سلوفاكي للعكس تمامًا– وصولًا إلى الانفصال عام 1993. بهذا فشلت تشيكوسوفاكيا مرّتين، كدولة مركزيّة، وكدولة إثنو– فدراليّة. هل كان ينبغي أن تقوم تشيكوسلوفاكيا أصلًا؟

والحال أنّ معظم الدول لا تّتبع النظام الإثنو–فدرالي فور ولادتها. ثمة دول تجرّب المركزيّة، أو الفدراليّة الجغرافيّة، ثمّ تفشل في إدارة تنوّعها المجتمعي، فتلجأ إلى الإثنو–فدراليّة. وإذا فشل هذا النظام أيضًا، فيعني أنّ شيئًا لم ينجح للحفاظ على الدولة، لا الإثنو–فدراليّة فقط. في هذه الحالات، يصبح الانفصال هو آخر الدواء، علمًا أنّ قيام الدولة الواحدة فيها كان خطأً من الأساس.

بالنسبة إلى بلادنا، نزعم هنا ما يلي: 1) أيّ شكل من أشكال الفدراليّة، سواء كان إثنو-فدراليًّا، أو فدراليًّا جغرافيًّا، أو فدراليًّا مركّبًا، أفضل للبنان من النظام المركزي. 2) سنتوسّع لاحقًا بمسألة تقسيم الولايات الفدراليّة في لبنان. وبمعزل عن كلّ الاتّهامات والنفاق والضوضاء التي تحيط بالطرح الفدرالي، نسأل بهدوء: ما الضرر من تحويل الأقضية اللبنانيّة إلى ولايات فدراليّة؟ 3) البدائل الحقيقيّة عن الفدراليّة غير موجودة. نسجّل هنا، أنّ الكثيرين يستسهلون انتقاد الفدراليّة، ورميها بأقذع النعوت. ولكن مجرّد أن نسألهم: "حسنا، ما البديل؟ أي نظام آخر غير الفدراليّة يمكن لنا أن نتّبعه، لتنظيم شؤوننا؟"، حتّى يخيّم عليهم صمت القبور، أو يعودون للدفاع عن شكل من أشكال النظام المركزي، وقد فشل بوضوح.

والحال أنّنا نتفهّم بعمق المخاوف التي تثيرها الفدراليّة، وتحديدًا الإثنو-فدراليّة. الخوف الأوّل طبعًا يتعلّق بوحدة الدولة. هناك دول إثنو–فدراليّة عرفت أزمات كبرى لأنّ مكوّناتها اختارت الانفصال. أدّى هذا في بعض الحالات الى زوال الدولة عمليًّا عن الوجود (تكرارًا، فكّر بيوغوسلافيا، الاتّحاد السوفياتي، تشيوكوسلوفاكيا). المسألة هنا هي التالية: هناك من يزعم أنّ الإثنو–فدراليّة تعزّز الرغبة في الانفصال (عبر تعزيز شعور الجماعة بهويّتها المتمايزة عن الهويّات الاخرى)، والقدرة عليه (عبر انشاء مؤسّسات سياسيّة وأمنيّة وقضائيّة يمكن بسرعة تحويلها الى مؤسّسات دولة مستقلّة، لا مجرّد ولاية فدراليّة، عندما تنحو الأمور صوب الانفصال). الخوف الثاني يتعلّق بطبيعة النخب الحاكمة التي تفرزها الإثنو–فدراليّة. هناك من يزعم أنّ التكوين الطائفي للولايات الفدراليّة يسهّل وصول قيادات تثير النعرات الطائفيّة وتستخدم المزايدة الطائفيّة (Outbidding) للوصول الى السلطة. كما ينبع الخوف الثالث من اعتراض على مساواة الكانتونات أو الولايات الصغيرة مع الولايات الكبيرة، وهذه مساواة تضمنها الدساتير الفدراليّة عادةً لأنّ الخلفيّة الليبراليّة للمشروع الفدرالي تركّز على حماية الاقليّات. ولكنّ هذا المنطق غالبًا ما يثير حفيظة الأغلبيّات باعتبار أنّه يجحفها حقّها، ويعطي الأقليّات صلاحيّات وامتيازات لا يبرّرها حجمها الديموغرافي. كلّ هذه المخاوف تستحقّ التبصّر والتفكير. مع ذلك، نعتقد أنّه لا يوجد حلّ سهل لمشاكلنا، وهي بالغة التعقيد. لقد قال ونستن شرشل يومًا إنّ الديموقراطيّة هي أسوأ نظام، باستثناء كلّ الأنظمة الأخرى. بالحدّ الادنى، الفدراليّة هذا أيضًا: أسوأ طريقة لإدارة التعدّدية المجتمعيّة، باستثناء كلّ الطرق الاخرى.

مواضيع ذات صلة