مانيفستو

لماذا نحن فدراليّون (1/23): الفدراليّة والتعدديّة المجتمعيّة – مقدّمة عامّة (1)

نحن فدراليّون لأسباب أربعة أساسيّة: 1) تركيبة لبنان المجتمعيّة تفترض شكلًا من أشكال الفدراليّة لإدارة تعدديّتها. نحن منتبهون إلى مسألة الهويّة لأنّنا واقعيّون، لا لأنّنا هويّاتيّون. لا نؤمن، بمعنى آخر، بتفوّق جماعة على جماعة في لبنان، أو بأيّ مكان من العالم. ولا نعمل كي تتسيّد جماعة على أخرى. قيمنا قيم التنوير، الكونيّة، الليبراليّة .2) سئمنا من المقاربات الرديئة أو الكاذبة لمسألة الهويّة. سئمنا تحديدًا ممّن يعرّف الهويّة كشكل من أشكال الصراع الطبقي، لأنّها ليست كذلك. سئمنا أيضًا ممّن يزعم إلغاء الهويّة بحجّة انتماءات كبرى قوميّة أو أمميّة أو دينيّة. كما سئمنا بطبيعة الحال من الإيديولوجيا العابرة للحدود اللبنانيّة، والمقاربة الدينيّة الأصوليّة للسياسة، واستسهال العنف السياسي كوسيلة للغلبة. بديلنا، لبناني، ليبرالي، وفدرالي. وهمّنا التخفيف من حدّة القضايا الخلافيّة والأدلجة والاستقطاب الداخلي، والتفكير بسبل انتشال بلادنا من مأساتها الحاليّة ووضعها على طريق التعافي أوّلًا، ثمّ الاستقرار المديد. 3) حظوظ ربح المعركة مع المنظومة الحاكمة ومنعها من إعادة إنتاج نفسها أفضل من خلال سلطات سياسيّة محليّة. النظام المركزي عقبة كأداء أمام التغيير في لبنان وحليف طبيعي لقوى الستاتيكو. 4) تقوم الفدراليّة على اللامركزيّة السياسيّة والإداريّة والماليّة، وهي تاليًا نظام أفضل للحوكمة وإدارة الموارد والتنمية المستدامة في المناطق. سنركّز في هذه الحلقة على النقطة الاولى، أي مسألة الهويّة المجتمعيّة، على أن نتوسّع بالنقاط اللاحقة في حلقات تالية.

نحن مع الفدراليّة كنظام سياسي، لأنّ هويّاتنا طوائفيّة كمجتمع. عندما تتشكّل هذه الهويّات –وهي حصيلة تلاقح معطيات دينيّة، وسياسيّة، وثقافيّة– يصبح من الصعوبة بمكان إلغاؤها. الأمر صحيح عندنا وفي أيّ بلاد تعدديّة أخرى. لا يستطيع واحدنا مثلًا، أن يقنع الأكراد أن يصيروا عربًا، أو العكس؛ كما لا يمكن إلغاء هويّة الأمازيغ المتمايزة مثلًا في الجزائر، أو الكاثوليك في إيرلندا الشماليّة، أقلّه ليس بالوسائل السلميّة. لأنّ الهويّة أمر حميم وعزيز على قلب الإنسان، ولا يتخلّى عنها بطيبة خاطر. طبعًا هذا لا يلغي أنّ التاريخ حافل بمحاولات الهندسة المجتمعيّة الهادفة لتغيير الهويّات بالقوّة: مثلا، صدّام حسين منع الاكراد من تعلّم الكرديّة في العراق وغيّر أسامي قراهم؛ حافظ الاسد ارتكب الأمر نفسه مع أكراد سوريا؛ وأيضًا القذّافي مع البربر. بالحقيقة، الجينوسيد الجسدي أو الثقافي هو الطريقة الوحيدة لتغيير الهويّات المجتمعيّة بسرعة. يمكن بالمقابل، بدل تغييرها والسعي إلى "تجاوزها" و"صهرها" وطنيًّا، الاعتراف بها كحقائق مجتمعيّة ليست بذاتها جيّدة أو سيئة، بل مجرّد واقع ينبغي التعامل معه وفق منطقه هو، لا وفق ما تريده له هذه أو تلك من الإسقاطات الإيدولوجيّة. الحقيقة أنّ من يتابع تطوّر مسألة الهويّة في الديموقراطيّات الليبراليّة الغربيّة يلاحظ كيف خرجت هذه الدول تدريجيًّا من منطق الدولة–الأمّة، ووهم "صهر" الشعوب، إلى رحاب القبول بالتعدّديّة المجتمعيّة، ومحاولة تنظيمها عبر شكل من أشكال الفدراليّة. أكثر من ذلك، بمقدار ما أكملت أوروبا تحوّلها الديموقراطي، بمقدار ما انفتحت أكثر على فكرة التعدديّة المجتمعيّة كبديل عن الدولة–الأمّة الجاكوبينيّة. قارن، على سبيل المثال لا الحصر، بين وضع الباسك الإسبان، في ظلّ نظام الجنرال فرانكو، ووضعهم لاحقًا بعد سقوطه وترسيخ التحوّل الديموقراطي الإسباني. يمكن هنا تلخيص الوضع بالمعادلة التالية: تحوّل ديموقراطي وليبراليّة (على المستوى السياسي والقيَمي) + تعدديّة مجتمعيّة (على المستوى البنيوي والمجتمعي) = شكل من أشكال الفدراليّة (على مستوى نظام الحكم).

ما هو صحيح بالنسبة إلى الجماعات والطوائف بالعالم، صحيحٌ في لبنان أيضًا. ليس من باب الإفراط بالقلق ولا نكء الجراح أن نسأل الآتي: هل تمكنّت دولة واحدة تعيش فيها نسب وازنة من المسيحيّين والمسلمين من تجنّب الاحتكاك الطائفي بينهم؟ هذه بعض الأمثلة التي نبغي أن تكون مدعاة تفكّر لنا: 1) قبرص انتهت الى التقسيم بعد حرب تواجه فيها مسيحيّون (يونانيّون) مع مسلمين (أتراك). 2) السودان انتهى الى التقسيم بعد حروب تواجه فيها مسيحيّون وإحيائيّون ( أفارقة جنوبيّون) مع مسلمين (عرب شماليّون). 3) إندونيسيا (المسلمة) خسرت إقليم تيمور-لست (المسيحي) بعد حرب عليه قاربت الإبادة. 4) نيجيريا (المسلمة بغالبيّتها) واجهت مشكلة سعي البيافرا (المسيحي) للانفصال عبر الإبادة الجماعيّة. 5) يوغوسلافيا انهارت كدولة بعد مجازر وحروب تواجه فيها مسيحيّون (صرب و كروات) مع مسلمين (بوسنيّين)، ذُبح فيها المسلمون خصوصًا. فكّر، على سبيل المثال لا الحصر، بمجزرة سربرنيتشا التي قتل فيها مسلّحون صرب حوالي 8000 بوسنيًّا مسلمًا عام 1995 . 6) إقليم ناغورنو–كاراباخ لا يزال محطّ صراع بين مسيحيّين (أرمن)، ومسلمين (أذريين). 7) وضع الأقباط في مصر من سيّء الى أسوأ. 8) وضع المسلمين في فرنسا وفي أوروبا عمومًا مأزوم. الأمثلة الأخرى المشابهة كثيرة.

لماذا نحن فدراليّون (2/23): الفدراليّة والتعدديّة المجتمعيّة – مقدّمة عامّة (2)

ليس القصد من الحلقة الأولى لهذه المقدّمة المحاججة بحتميّة "صراع الحضارات" أو ما شابه. ولا القصد طبعًا حصر صراعات الهويّة بخلافات المسيحيّين والمسلمين – الحروب الدينيّة في أوروبا بين المسيحيّين أنفسهم، أو كراهية اليهود على خلفيّة دينيّة أو عرقيّة، أو الصراعات بين المسلمين، لم تقلّ بالضرورة ضرواةً وتعقيدًا، هذا فضلًا طبعًا عن سائر الصراعات العرقيّة أو القبليّة أو الجهويّة في العالم. القصد بالمقابل هو التفكير بعلاقة المسيحيّين والمسلمين في لبنان من منظار مقارن على أمل فهم تعقيداتها والخروج من وهم الحلول التبسيطيّة. والقصد أيضًا هو الآتي: إذا لم تتمكن كلّ المجتمعات المحيطة بنا من "تجاوز" الفالق المسيحي – الإسلامي، لماذا وكيف سنتمكّن نحن؟ على أيّ أساس إمبيرقي، بمعنى آخر، يستند دعاة "تجاوز" الطائفيّة في لبنان؟ لقد حلم مثقفّون كالمعلّم بطرس البستاني بهذا "التجاوز" منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا. هل حصل؟ أن نقول لا هو تحصيل حاصل – بالحقيقة، الهويّات الطائفيّة في المشرق والنعرة الدينيّة فيه أقوى من أيّ وقت سبق. فإلى متى نفتتن بالأحلام الورديّة المنفصلة عن الوقائع المجتمعيّة؟ ثمّ، لنكن واضحين: نحن نتحدّث عن أفكار يعاد انتاجها بطريقة أو بأخرى منذ 160 عامًا على الاقلّ، من دون أن يقترب المجتمع منها. ألا يرى الأصدقاء "التجاوزيّون" أنّ ثمن غياب التطابق بين إسقاطاتهم الإيديولوجيّة وحركة المجتمع المحيط بهم كان كبيرًا علينا؟

أكثر من ذلك: يمكن لدعاة الفدراليّة في لبنان أن يقولوا إنّنا نريد دولة فدراليّة كما الإمارات العربيّة فدراليّة؛ وكما أنّ في العراق ضرب من ضروب الفدراليّة. يمكن للفدراليّين أيضًا أن يذكّروا أنّ النخب المثقفة العربيّة طالبت بشكل من أشكال إعادة التنظيم الفدرالي للسلطنة العثمانيّة، يضمن الحقوق السياسيّة والثقافيّة للعرب والأتراك معًا، في ظلّ العرش العثماني، وأنّ رفض الآستانة مطالبهم ساهم مباشرةً بتوتير العلاقات العربيّة-التركيّة في العقود الأخيرة لسلطنة بني عثمان. بالمقابل، من يزعم تجاوز الطائفيّة في لبنان، أين رآه ممكنًا في العالم المحيط بنا؟ في سوريا مثلًا؟ أم العراق؟ أم البحرين؟ أم مصر؟ الأمر عينه صحيح بالنسبة إلى دعاة العلمنة: أين رأوها راسخة في منطقتنا؟ أفي تركيا، أم ... في إيران؟ من قال لهؤلاء أنّ العلمنة ستنتصر في منطقتنا لمجرّد أنّها انتصرت في أمكنة أخرى؟ ثمّ ماذا نفعل عندنا بمئات الآلاف من اللبنانيّين من الّذين تستعبد عقولهم ولاية الفقيه والخمينيّة؟ مجرّد أسئلة يفترض بمن يحاجج بالطرح "التجاوزي" لمسألة الهويّة التفكير بها. نحن فدراليّون لأنّنا ننظر أوّلًا إلى تركيبة المجتمع كما هي، ثمّ نفكّر بنظام سياسي يتناسب معها، بدل أن نصنع من تهويماتنا الفكريّة نظامًا فاضلًا، ثمّ نسعى لتغيير المجتمع كي يتناسب مع إسقاطاتنا. أثمان المراهقة الفكريّة مكلفة وقد دفعناها مرارًا. لا ضرورة لدفعها مجدّدًا.

لماذا نحن فدراليّون (3/23): الفكر القومي ومسألة الهويّة في المشرق العربي

ذكرنا في الحلقة الأولى أنّنا فدراليّون بحكم تركيبة لبنان المجتمعيّة. نزعم أنّ هذا الطرح هو، قبل أيّ شيء آخر، نزيه فكريًّا. نزعم خصوصًا أنّ الطروحات المقابلة تنطوي على قدر غير قليل من الخفّة والإزداوجيّة والنفاق على المستوى النظري، كما على مستوى الممارسة. وفي المشرق العربي، كما في أيّ مكان آخر من العالم، ما يبدأ بالكذب، ينتهي بالعنف الأهلي.

فكّر مثلًا بمنظّري القوميّة العربيّة بامتياز، عنينا ساطع الحصري وميشال عفلق. حاشى وكلّا أن يكونا طائفيّين، أليس كذلك؟ الأوّل استقى فكره من أمّهات كتب الفكر القومي الألماني، من "فيخته" بشكل خاصّ، والثاني لم تمنعه مسيحيّته من تطويب الإسلام روحًا للقوميّة العربيّة. لا كثير اهتمام عند هذا أو ذاك بمسألة الجماعات في المشرق العربي إلّا لجهة التأكيد على وحدانيّة العرب كأمّة ناجزة. طوائف؟ أقليّات؟ مجموعة ثقافيّة؟ ماهذا الكلام؟ العروبة وكفى.

باستثناء طبعًا أنّ الممارسة كانت أمرًا مختلفًا. ساطع الحصري كان وزيرًا للتربية في العراق إبّان العهد الفيصلي. كقومي عربي، كان من المفترض به ألّا يتحفّظ على بناء المدارس في مناطق يكثر فيها المسيحيّون والشيعة العراقيّون، باعتبار أنّ هؤلاء أبناء الوطن الواحد، أليس كذلك؟ ولكنّ العكس حصل. ركّز الحصري على بناء المدارس بين السنّة العراقيّين وتحفّظ على بنائها في مناطق سواهم. كتب الحصري في مذكّراته، شارحًا رفضه انتشار دار المعلّمين في الحلّة والموصل:

"وأنا لم أتردّد في الحكم بأنّ تنفيذ هذه الخطّة –إنشاء دار معلّمين في الحلة وأخرى في الموصل– يعرّض الوحدة الوطنيّة للخطر لأنّه كان من الطبيعي أن تكون الاكثريّة الساحقة من الطلّاب في الموصل من أبناء المسيحيّين وفي الحلة من أبناء الجعفريّين". (راجع ساطع الحصري، مذكّراتي في العراق، 1967، بيروت، دار الملايين، الجزء الاوّل، ص 80)

الجميل هنا، أنّ "الوحدة الوطنيّة" تتهدّد فقط لو استفاد من المدارس "أبناء المسيحيّين" أو "أبناء الجعفريّين". أمّا أن يستفيد منها سواهم، فلا مشكلة طبعًا، ودائمًا باسم العرب والعروبة. والحال أنّ علاقة الحصري بالشيعة العراقيّين خصوصًا كانت مضطّربة – هو يتّهمهم بالشعوبيّة، وبالأصل الإيراني، أيّ بأنّهم ليسوا عربًا حقًا، وهم يردّون بأنّ الرواية الرسميّة لتاريخ الإسلام التي تبّناها كوزير للتربية هي بالحقيقة النسخة السنيّة له. باختصار: أمّا وأنّ الفرس شيعة، فقد بدا للحصري أن الشيعة بالضرورة فرس، أو على الاقلّ، من ناقصي العروبة. وهناك طبعًا من يقول إنّ كراهية الحصري للشيعة لم تكن مذهبيّة، بل قوميّة؛ ولكن التفريق بين ما هو قومي، وما هو مذهبي صعب جدًّا، إن كان تعريف القوميّة يحصر من هو عربي "حقّا" بالسنّة. وعمومًا، مع أنّ الملك فيصل نفسه لم يكن طائفيًّا، فإنّ النظام الفيصلي، الذي كان الحصري منظّرًا له، حصر الشيعة العراقيّين بالهوامش، وأبقى السنّة في المتون، خصوصًا في المؤسسات الأهمّ للدولة الناشئة، أي المؤسسات العسكريّة والأمنيّة. بالشكل، لا دعوة صريحة للكراهية الطائفيّة في كتابات الحصري. ولكنّ وحدانيّة الأمّة الغالية عليه عنت بالممارسة أسبقيّة العنصر السنّي على الجميع. هذا واحد من الأسباب التي تبرّر حذرنا من النظريّات النافية للتعدديّة المجتمعيّة باسم هويّات كبرى مفترضة: تجاوز شكل الطرح باتّجاه مضمونه وممارسته، ترى الطائفيّة المتنكّرة بنقيضها.

ميشال عفلق لم يكن أفضل من الحصري. نبيل الشويري، المثقّف السوري والبعثي من الرعيل الأوّل، كان يعرف "الأستاذ" جيّدًا، بحكم الجيرة في حيّ الميدان بين عائلتي عفلق والشويري الدمشقيّتين الأرثوذوكسيّتين. في حواره الطويل مع الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر، والذي تحوّل إلى واحد من أفضل الكتب عن سوريا المعاصرة وأغناها (سورية وحطام المراكب المبعثرة – المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 2005)، يكشف الشويري سرًّا مثيرًا للاهتمام جدًّا عن عفلق، مفاده أنّه رفض زواج أخته ماري من أحد أنصاره، نزيه الحكيم، لأنّه مسلم. تزوّجت ماري رغمًا عن معارضة أخيها، فانقطعت فورًا علاقة عفلق بالحكيم، كما بقيت علاقة ماري بأخيها ميشال سيّئة حتّى بعد طلاقها اللاحق وعودتها إلى منزله. كيف يجتمع الإيمان الحارّ بالقوميّة العربيّة مع مقاطعة الشقيقة لانّها تزوجّت من مسلم، وهو ما رفضه عفلق "بسبب محافظته وتقليديّته" بحسب الشويري؟ وأساسًا، كيف يجتمع بناء تأسيس الحزب التقدمّي كالبعث، مع المحافظة والتقليديّة في الحياة الخاصّة؟ مجدّدًا، هنا الإزدواجيّة التي نتحدّث عنها، والتي لا نريدها منطلقًا لفهمنا لمسألة الهويّة في لبنان، واستطرادًا، المشرق العربي.

ليس الهدف من هذه العجالة تفنيد سائر نواحي الفكر القومي في المشرق العربي، أو حشره كلّه في خانة واحدة – ولا شكّ أنّ أفكار ساطع الحصري، أو ميشال عفلق، أو صلاح الدين البيطار، أو قسطنطين زريق، تظلّ على علّاتها أفضل بكثير من تهويمات أنطون سعادة الكارهة ل "السلالات المنحطّة"، أو تخرّصات تلك الحفنة من البعثيّين الأوائل الذين كتب عنهم سامي الجندي : "كنّا عرقيين معجبين بالنازيّة نقرأ كتبها ومنابع أفكارها" (راجع سامي الجندي، البعث، دار النهار للنشر، بيروت، 1969، صفحة 27). كلّ المسألة أنّنا تعبنا من الإيديولوجيا ومن إسقاطاتها القبليّة. تعبنا أيضًا من تذاكي العقائديّين ونفاقهم وطائفيّتهم المضمرة. لا نريد أن نقول علنًا بالقوميّة العربيّة، وسرًّا بتفوّق السنّة كأمّة على الآخرين كمجرّد طوائف. ولا نريد أن نجاهر بالممانعة وبفلسطين وبتحرير القدس، ونعمل سرًّا لغلبة الشيعة على سواهم. كما لم تعد مجتمعاتنا تتحمّل تجربةً كالبعث السوري، تستعمل الإشتراكيّة لضرب سنّة المدن، بحكم الكراهية الطائفيّة–الريفيّة، أو تجربة "حركة وطنيّة" تبرّر مشاركتها بالحرب اللبنانيّة بضرورة إصلاح النظام اللبناني، ثمّ تغطّي مجازر الدامور والعيشيّة ودير عشاش وسواها. ما العلاقة بين التقدّم والمجازر الطائفيّة؟ هذا بالتحديد ما نكتب ضدّه: النفاق العلمانوي شكلًا، والطائفي ضمنًا، وهو نفاق، بالمناسبة، مستمرّ إلى يومنا هذا بتنويعاتٍ وأسماءٍ مختلفة. كما لا نريد "قوميّة لبنانيّة" إن كانت تعني أسبقيّة الموارنة على غيرهم في لبنان. بالحقيقة، لا نريد القوميّات كلّها، ولا الفكر القومي. عندنا أنّ كلّ العقائد والنظريّات النافية للتعدّد المجتمعي مشبوهة لأنّها ليست نزيهة، ولأنّ جوهرها إقصائي، ولو كان شكلها نابذًا للطائفيّة. نكرّر أنّ ما يبدأ بالتذاكي، ينتهي بالخراب العميم، هو خراب بلداننا ومدننا ومجتمعاتنا في لبنان وسوريا والعراق والمشرق بأسره.

نريد بالمقابل، نزاهة فكريّة أكبر. يعني هذا ضمن ما يعنيه قبولًا بالطوائف كوحدات سياسيّة وشعوريّة، وهو ما لا يلغي بطبيعة الحال حقّ الفرد بالتمايز الحرّ عنها. ويعني أيضًا إعادة تنظيم الأنظمة السياسيّة من فوق كي تتناسب مع تركيبة المجتمع من تحت. ولهذا النوع من الأنظمة إسمًا واضحًا: الفدراليّة. لن نسميّها إتّحاديّة، مع انّها كذلك. ولن نسمّيها لامركزيّة سياسيّة، مع أنّها كذلك أيضًا. سنسمّيها باسمها (وسنحارب كي نرفع الشيطنة عنه): الفدراليّة.

لماذا نحن فدراليّون (4/23): بخصوص أنّ البربريّة هي البديل عن الاعتراف بالتعدديّة المجتمعيّة: العراق نموذجًا

إختلفت الأنظمة المتعاقبة منذ نشأة العراق الحديث في عشرينات القرن الماضي على الكثير، واتّفقت على رفض الإعتراف بالتعدديّة المجتمعيّة. كان الشيعة العراقيّون يعانون أصلًا من سياسات العثمانيّين الإقصائيّة، فلا يُقبل شيعي في المدرسة الحربيّة أو في وظائف الدولة إلّا نادرًا، هذا فضلًا عن وضع العراقيل أمام دخول التلاميذ الشيعة المدارس الحكوميّة. نظريًّا، أمّا وأنّ القوميّة العربيّة كانت إيديولوجيا حكّام العراق الجدد بعد انهيار السلطنة العثمانيّة التي حملت العائلة الهاشميّة رايتها، فكان يفترض ألّا يعاني الشيعة (أو المسيحيّون) من الحكم الجديد. هذا نظريًّا فقط. عمليًّا، كان معظم الإستبشلمنت الحاكم في العراق الهاشمي من خرّيجي المعاهد والإدارات العثمانيّة، فاستمرّ التمييز الطائفي ضدّ الشيعة، كأنّ شيئًا لم يكن بعد انهيار السلطنة. مثلًا، بين عامَي 1921 و1947، تعاقبت عشرون حكومة عراقيّة، من دون أن يستلم شيعيّ رئاسة الحكومة مرّة، مع أنّ الشيعة غالبيّة سكّان العراق. كان من الطبيعي في العراق الهاشمي مثلًا، أن يُنتخب نوّاب سنّة عن مناطق ذات غالبيّة شيعيّة، أو أن يخلو تمثيل العاصمة بغداد من النوّاب الشيعة، ولو اتّسع لنوّاب من الطائفة اليهوديّة. كما ندر تعيين سفراء شيعة طوال العهد الملكي، وقاربت أعداد الطلبة الشيعة المقبولين في مختلف دورات الكليّة الحربيّة الصفر. كيف يمكن لحكم "قومي" أن يبرّر إقصاء الطائفة الكبرى في بلاده عن الحكم؟ الجواب كما ألمحنا سابقًا، أنّ منظّري الحكم الهاشمي وكتّابه أفتوا بأنّ شيعة العراق جاؤوا من إيران، وتاليًا هم ليسوا عربًا. مثلًا، كتب عبد الرزاق الحصان:

"الشيعة شعوبيّون بالإجماع، فرس بالإجماع، وهم من بقايا الساسانيّين في العراق، ولا حقّ لهم في السلطة أو في تمثيل السلطة" (راجع كتاب سعيد السامرائي، الطائفيّة في العراق، مؤسّسة الفجر، 1993، صفحة 54).

طبيعي، والحال هذه، أن يتوجّس الشيعة العراقيّون من القوميّة العربيّة بصفتها إسمًا مستترا لأولويّة العنصر السنّي، وأن يعارضوا لاحقًا الانضمام إلى الجمهوريّة العربيّة المتّحدة بزعامة عبد الناصر، كي لا يذوبوا تمامًا في البحر السنيّ. وطبيعي أيضًا، أن تحفل حقبة الحكم الملكي بالمجازر ضدّ الأقليّات، من مجزرة المسيحيّين الأشوريّين (أحداث سميل، عام 1933)، الى مجزرة اليهود (أحداث الفرهود، عام 1941). وطبيعي أخيرًا، مع سقوط الملكيّة واستلام الوطني العراقي عبد الكريم قاسم ناصية الحكم، أن يلتفّ حوله الشيعة والأكراد والشيوعيّون، بينما انحاز نائب عبد الكريم قاسم، السنّي المتشدّد عبد السلام عارف، الى عبد الناصر. وبعد انقلاب 1963 وسقوط قاسم، إستلم عبد السلام عارف الحكم، لتبدأ مرحلة جديدة من سيطرة إيديولوجيا القوميّة العربيّة في العراق، وترجمتها عمليًّا إقصاء العناصر غير السنيّة فيه. والحال أنّ عبد السلام عارف ذكر لخلصائه أنّ في العراق ثلاث جماعات ينبغي استئصالها، هم الشيعة والمسيحيّون والأكراد. وكان عارف يستعمل لفظة "شعوبيّون" التحقيريّة للدلالة على الشيعة، وقيل إنّه كان يرفض تلقّي العناية الصحيّة من أطبّاء شيعة. جرى ذلك طوال حقبة الحكم العارفي (1963 – 1968) تحت وابل من المزايدات القوميّة، والأنتي-إمبرياليّة، والأنتي-إسرائيليّة يعرفها جيّدًا سكّان منطقتنا من العالم ودارسو سياساتها. ومع الإعتذار على التكرار، نكرّر: إبحث قليلًا، قليلًا فقط، خلف الشعارات القوميّة، أو التقدميّة، أو أي إيديولوجيا نافية للتعدديّة المجتمعيّة في منطقتنا، تقع بسرعة على طائفيّة إقصائيّة عزّزت استقطاب الهويّات، بإسم الخلاص منها.

وعمومًا، لم تتغيّر الأمور مع بداية فترة حكم البعث الثانية، بعد العام 1968. ومع أنّ مثقفيّن شيعة كانوا من مؤسّسي البعث –أوّل أمين عام للبعث في العراق، فؤاد الركابي، كان شيعيًّا– فقد سيطر العرب السنّة بالكامل تقريبًا على حزب البعث بعد العام 1963، وخصوصًا على جناحه العسكري. وهكذا، خلا مجلس قيادة الثورة عام 1968 من أيّ شخصيّة غير سنيّة. وبدا بسرعة أنّ ضرب المرجعيّة الشيعيّة الدينيّة هدف أساسي للحكم الجديد، كما استمرّ إقصاء الشيعة عن عماد الحكم الجديد، أي الجيش والمدرسة الحربيّة. يقول طبيب عراقي نايف شنين، كان عضوًا في لجنة الفحص الطبّي للمتقدمّين للكليّة العسكريّة:

"إن فحصًا طبيًّا دقيقًا يتعرّض له الطلّاب المتقدّمون الى الكليّة بدنيًّا وعقليًّا. ولكن عددًا من الطلّاب المتقدمين يخفقون في اجتياز فحص الأذن والحنجرة، حيث أنيطت المهمّة بطبيب خاص، يحتفظ كما يبدو بمعلومات مؤشرة إزاء الطلّاب الشيعة، فيجري استبعادهم من القبول بهذه الطريقة. وأنا بما أتحمّل من أمانة كطبيب، أؤكّد أن حالات متكرّرة وفي كلّ عام كان الطلّاب الشيعة يتعرّضون لها، ولم تكن نتائج الفحص صحيحة." (راجع كتاب حسن العلوي، الشيعة والدولة القوميّة، صفحة 184).

لا عجب، والحال هذه، أن يرفع جيش صدّام شعار "لا شيعة بعد اليوم" أثناء قيامه بسحق انتفاضة الجنوب الشيعي عام 1991. ولا عجب أيضًا من فظاظة عنف داعش ضدّ الشيعة متى علمنا أنّ قسمًا غير قليل من نخبتها جاء إليها أصلًا من ضبّاط صدّام، وتحديدًا من المخابرات الجويّة. ولا عجب أخيرًا، أن تردّ المليشيات الشيعيّة الموالية لايران الصاع صاعين بعد سقوط نظام صدّام حسين: ما يتعرّض له السنّة العرب منذ العام 2003 في الموصل، وفي غير الموصل، عنف معنوي وجسدي يقارب أحيانًا التطهير العرقي. اشتكى سنّة كثر أنّ "اجتثاث البعث" من الإدارات العامّة تحوّل عمليًّا الى اجتثاث السنّة منها. اشتكوا أيضًا أنّ الحرب ضدّ داعش استعملت تكرارًا كعذر لإحداث تغيير ديموغرافي في مناطق الثقل السنّي في العراق. ومن يدرس أحوال العراق بعد العام 2003 يعلم أنّ للمظلوميّة السنيّة فيه ما يبرّرها. سؤالنا: لو اعترف العراق بالتعدديّة المجتمعيّة بدل السعي لإنكارها طورًا باسم العروبة، وطورًا باسم الإسلام أو الممناعة أو الأنتي–إمبرياليّة، أو ما سوى ذلك من الشعارات السائدة في منطقتنا، ألم يكن ذلك أجدى للعراق وأنفع؟ تحديدًا: أليست الفدراليّة حلّا لإدارة التعدديّة المجتمعيّة العراقيّة، وماذا جنى العراق من إيديولوجيا "تجاوز" الهويّات، باسم قضايا دومًا كبرى، تتشدّق نظريًّا ب"الأمّة"، وتترجم نفسها عمليًّا بسيطرة فصيل أو قبيلة أو منطقة أو جماعة على كلّ ما عداها؟ السؤال نفسه صالح لسوريا، كما سنرى في الحلقة المقبلة. والسؤال الأخير في هذه الحلقة: تستسهل أدبيّات يسارويّة وتقدميّة مفترضة تقريع النظام اللبناني وشيطتنته لأسباب مختلفة، منها تكريس "الطائفيّة". ولكن مَن الطائفي الحقيقي؟ أهو من يقرّر، في أوجّ قوّته، الإعتراف بالواقع التعدّدي وترجمته مؤسّساتيًّا عبر نظام يتّسع له ولسواه، أو من ينفي التعدديّة المجتمعيّة من أساسها عبر طروحات انصهاريّة بالشكل، وإقصائيّة بالمضمون؟

لماذا نحن فدراليّون (5/23): بخصوص أنّ البربريّة هي البديل عن الاعتراف بالتعدديّة المجتمعيّة: سوريا نموذجًا

تزعم الرواية الرسميّة للتاريخ السوري المتعلّقة بمرحلة الإنتداب الفرنسي على سوريا أنّ السوريّين تمسّكوا كلّهم بالوحدة السوريّة، بينما سعى الفرنسيّون لتقسيمهم على أساس طائفي، وأنّ السوريّين كلّهم عارضوا الإنتداب الفرنسي، إنطلاقًا من قناعات وطنيّة وقوميّة. يفوت هذه الرواية حقائق دامغة من نوع أنّ تيّارات محليّة قويّة في جبال العلوّيين وجبل الدروز ومنطقة الجزيرة السوريّة – حيث الاستيطان الكردي الكثيف، وأيضًا، المسيحي – طالبت بالإستقلال عن دمشق، وأنّ الحذر من الحكم السنّي لدى شرائح وازنة من الأقليّات السوريّة كان أقوى بكثير من معارضة الفرنسيّين. فكّر مثلًا، بما قاله حسن الأطرش، الزعيم الدرزي السوري، للسفير البريطاني عام 1945:

"الدروز، كأقليّة دينيّة، عرضة للإضطهاد الدائم في بلدان المسلمين، إن لم تتولّ قوّة أجنبيّة حمايتهم. بسبب وطأة الكراهية الإسلاميّة ضدّنا، توحدّت كلّ عشائر الجبل، وشباننا يطلبون الانتقام بقوّة السلاح. أمّا الدروز الكهول، فيحلمون بالسفر الى أرض لا يتعرّضون فيها للاضطهاد الديني" (راجع دراسة جوشوا لانديس، الشيشكلي والدروز، 1998، منشورة بالانكليزيّة على موقع لانديس الالكتروني).

حركة سلطان باشا الأطرش تمّ تأويلها بطريقة تخدم الرواية الرسميّة للتاريخ السوري. بالحقيقة، كانت العلاقة بين النخبة السنيّة الحاكمة في دمشق والنخب الدرزيّة عمومًا شديدة التوتّر. في العام 1938، مثلًا، هدّد شكري القوّتلي (الزعيم السوري الذي صار لاحقًا رئيسًا للجمهوريّة)، بإحضار الزعيم الدرزي الإنفصالي عبد الغفّار الأطرش مخفورًا بالأغلال الى دمشق. بالمقابل، إنتفض أنصار الأطرش في جبل الدروز، وطردوا ممثلي السلطة المركزيّة من الجبل، وطالبوا بقطع كلّ علاقة مع سوريا والاستقلال بالتعاون مع فرنسا. لاحقًا، في العام 1945، عاود القوتلي الكرّة، عندما ذكر أنّ الدروز "أقليّة خطيرة". إثر ذلك، هدّد سلطان باشا الاطرش بتوجيه مقاتليه إلى احتلال دمشق ردًّا على إهانة القوّتلي للدروز. والحال أنّ الدروز انقسموا قسمين، زمن الانتداب: طالب الأولّ، كما ذكرنا، بتكوين دولة درزيّة مستقلّة. أمّا الثاني، فقد رضي بالوحدة السوريّة والإستقلال، شريطة إعطاء جبل الدروز إستقلاله الذاتي. بيد أنّ شيئا من هذا لم يحصل. من جهة، توتّرت العلاقة بسرعة بين سلطان باشا الأطرش والأعيان السنّة الحاكمين في دمشق، وكان أن قاطع الأطرش احتفالات عيد الإستقلال في العاصمة السوريّة عام 1946 كإشارة لرفضه طريقة التعاطي معه ومع وطائفته. ومن جهة ثانية، خفّض الأعيان السنّة الحاكمون تمثيل الأقليّات فورًا بعد رحيل الفرنسيّين عام 1946، فهبطت حصّة المسيحيّين من 9 نوّاب الى 5، والعلويّين من 7 الى 6، والدروز من 5 الى 4. أمّا اليهود فخسروا المقعد الوحيد المخصّص لهم في المجلس. وفي العام 1953، أُلغيت الكوتا التي ضمنت تمثيل الاقليّات كليًّا، كما ألغت الحكومة السوريّة حقوقًا خاصّةً تمتّع بها الدروز والعلويّين في مسألة الأحوال الشخصيّة. وفي العام 1947، تبجّح موفد القوتلي إلى العاهل السعودي عبد العزيز بن سعود بأنّ الحكم السوري لم يكن مرّةً قويًّا تجاه الدروز كما هو اليوم، وأنّ العثمانيّين أنفسهم ما تمكنّوا من الدروز بقدر ما تمكنت منهم الدولة السورية الوليدة (راجع كتاب خيريّة قاسم، مذكّرات محسن البرازي 1947–1949، بيروت، دار الروّاد للنشر والتوزيع، صفحة 24، و37، 1994). أمّا أمين بو عسّاف، وهو من أبرز الضبّاط الدروز الذين شاركوا في عدد من الإنقلابات العسكريّة التي عصفت بسوريا اعتبارًا من العام 1949، فكتب من جهته أنّ الرأي العام في جبل الدروز:

"لم يكن يشعر أنّ دمشق عاصمته، وأنّه جزء من الأمّة العربيّة العظيمة، لأنّه لم يلقَ الّا العداء والكراهية من كلّ من يحيط به." (راجع أمين بو عسّاف، ذكرياتي، صفحة 15، لا يوجد دار نشر، 1996).

العلاقة بين الأعيان السنّة والعلويّين لم تكن أفضل. هكذا وصف أوّل مدير سوري لشركة "الريجي" أحمد نهاد السيّاف موقف السنّة من سكّان الساحل السوري تجاه العلوّيين، أبناء الجبل:

"فعامّة الناس في المدينة تنظر بحذر وريبة إلى الجبل (يقصد جبل العلويّين) كأنّه غابة غيلان، إنسانه فردٌ قذرٌ يمثّل الخيانة والعمالة والإلحاد، نظرة شملت الجبل متخطية سليمان (المرشد)، معتبرة المدينة رمز الفداء، ومن حقّها استباحة الجبل عرضًا ومالًا باعتباره مركز لتسويق الغواني والجاريات، وكأنّ ذلك حكم أزلي جعل أبناء المدن سادة، وسكّان الجبل عبيدًا وجواري". (راجع مذكّرات أحمد نهاد السيّاف في كتاب محمّد الباروت، شعاع قبل الفجر، مذكّرات أحمد نهاد السيٌاف، صفحة 171، لا يوجد دار نشر، 2005).

وعلى هذه الخلفيّة من الحذر المتبادل، أعدمت الحكومة السوريّة عام 1946 سليمان المرشد، الزعيم العلوي الأكثر نفوذًا آنذاك، ثمّ عرّضت مناصريه العلويّين لعقوبات جماعيّة قاسية. هكذا علّق منافس المرشد على زعامة العلويّين آنذاك، محمدّ بك جنيد، على خبر الاعدام:

"أشعر بالأسى كزعيم علوي أنّنا لم نتمكّن من توحيد صفوفنا في مواجهة الحكومة. بالنتيجة، تمكنّت الحكومة من كسرنا (أي زعماء العلويّين) الواحد تلو الآخر. أساسًا، كسروا آل كنج؛ الآن قتلوا المرشد؛ غدًا سيفتكون بآل عبّاس، وهكذا. من الصعب الوصف كم يكرهنا مسلمو الداخل السوري". (راجع أطروحة كورت لي مندهال عن النزعات الانفصاليّة في جبال العلويّين إبّان الإنتداب الفرنسي على سوريا، صفحة 236، جامعة تكساس– أوستين، 1991).

ومن يهتمّ بدراسة الدور السياسي للضبّاط السوريّين، يعلم أنّ الضابط العلوي محمّد ناصر، قائد سلاح الجوّ، تزّعم فئة من الضباّط العلويّين في الجيش خطّطوا للإنقلاب على حكم أديب الشيشكلي، قبل أن يدبّر الأخير اغتياله، ثمّ يعيّن الضابط السنّي رشيد الكيلاني مكانه عام 1950. ومن يقرأ عن تفاصيل اغتيال رئيس أركان الجيش السوري عدنان المالكي عام 1955 على يد الرقيب العلوي يونس عبد الرحيم (قومي سوري) يعلم أنّ الأخير كان مقتنعًا أنّ المالكي سنّي كاره للعلويّين ومنحاز ضدّهم في تعيينات الجيش وترقياته. ومن المعلوم أنّ المتّهمين الآخرين الّذين حوكموا بمقتل المالكي، عنينا فؤاد جديد وبديع مخلوف وعبد المنعم دبوسي، كلّهم من العلويّين.

ليس القصد في هذه الحلقة تقديم استعراض عام للعلاقة بين الطوائف في سوريا المعاصرة، بقدر ما هو المحاججة بما يأتي: منذ انقلاب البعث عام 1963 في سوريا، وحركة حافظ الأسد "التصحيحيّة" عام 1970، يذوق أهل السنّة من العذاب والقتل ألوانًا. لا ضرورة للتذكير هنا بأهوال لم تبدأ مع مجزرة حماة عام 1982، ولم تنته مع مجزرة الغوطة بالشام عام 2013. ما تعرّض له السنّة على يد آل الأسد لم تتعرّض له جماعة أخرى في المشرق العربي من قتل جماعي وهوان. وقبل ذلك، كما أسلفنا، لم يكن وضع الأقليّات في ظلّ الحكم السنّي مريحًا. هل قدرنا أن تكون طوائفنا في هذه المنطقة من العالم إمّا قاتلة أو مقتولة؟ إن كان الجواب أن لا، فينبغي الخروج من النفاق والولدنة الفكريّة باتّجاه التفكير بواقعنا المجتمعي كما هو، لا كما نريد له أن يكون. استطرادًا: ما هو الإدعاء الإيديولوجي الذي استند عليه "الحكم الوطني" (أي حكم أعيان السنّة)، منذ الاستقلال حتّى الستّينات؟ مزيج من القوميّة العربيّة والوطنيّة السوريّة "العابرة" للطوائف. وما هو الإدّعاء الإيديولوجي الرسمي لحكم آل الاسد؟ مجدّدًا، مزيج من القوميّة العربيّة والوطنيّة السوريّة "العابرة" للطوائف. كلّنا يعلم ما آلت إليه الأوضاع في سوريا بعد قرنٍ تقريبًا من الكذب والكذب المضاد. لو توقّفت النخب السوريّة عن التهريج، واعترفت بتعدّديّة سوريا المجتمعيّة، ثمّ فكّرت بنظام يعكس التعدديّة المجتمعيّة على المستوى المؤسساتي، ألم يكن هذا أجدى لسوريا وأنفع؟ لهذا النظام إسمٌ شديد الوضوح: الفدراليّة.

لماذا نحن فدراليّون (6/23): كيف تختلف الفدراليّة الجغرافيّة عن الإثنو- فدراليّة والحكم المركزي؟ (1)

ثمّة خمسة أنواع من الأنظمة السياسيّة عمومًا: 1) الدولة المركزيّة البسيطة (فكّر سوريا، أو لبنان). 2) الدولة المركزيّة المركبّة، وهي دولة مركزيّة تعطي مناطق أو جماعات فيها نوعًا من الحكم الذاتي، مثل الوضع الذي تتمتّع به كورسيكا في فرنسا؛ أو غرينلاند في الدانمارك؛ أو صقليّة في إيطاليا. 3) الفدراليّة الجغرافيّة، حيث تقسيم الولايات الفدراليّة لا يتبع حدود انتشار الطوائف أو الجماعات (فكّر، الولايات المتّحدة أو ألمانيا). 4) الإثنو-فدراليّة، حيث تعبّر كلّ الولايات الفدراليّة عن الهويّات الطائفيّة للقاطنين فيها (فكّرفي بلجيكا أو البوسنة-هرزوغيفينيا أو اثيوبيا). 5) الفدراليّة المركبّة، وهي مزيج من الفدراليّة الجغرافيّة والإثنو- فدراليّة، حيث ترسم حدود بعض الولايات على أساس التوزيع الطائفي، وأخرى لا (فكّر في كندا أو سويسرا أو إسبانيا أو العراق بعد 2005). يمكن، للاختصار، حصر التصنيفات الخمسة أعلاه بثلاثة: الدولة المركزيّة، الفدراليّة الجغرافيّة، والإثنو-فدراليّة.

وأمّا نظام الحكم المركزي، فهو يجعل من العاصمة مركز القرارين السياسي والإداري. طبعًا، يمكن للدولة المركزيّة أن تتّبع اللامركزيّة الإداريّة (Decentralization)، أو اللاحصريّة (Deconcentration)، أو الاثنين معًا – ولكن هذا لا يلغي أنّ مركز القرار يبقى السلطات الحكوميّة في العاصمة. وحتّى عندما تنحو الدولة المركزيّة صوب اللامركزيّة الإداريّة، يبقى أنّ صلاحيّات هيئاتها المحليّة (كالبلديّات مثلًا، أو المحافظين) تقرّر عبر قوانين يمكن تغييرها بقوانين أُخرى. هنا تختلف اللامركزيّة الإداريّة بالعمق عن الفدراليّة، حيث صلاحيّات الولايات الفدراليّة يضعها الدستور، ولا يمكن تعديلها إلّا بتغيير الدستور، وهي مسألة أصعب بكثير من مجرّد التصويت على قانون جديد، أو إلغاء قانون قائم أو تعديله. ثمّ أنّ استقلاليّة السلطات المحليّة تجاه العاصمة في النظام اللامركزي الإداري أقلّ بكثير من استقلاليّة مكوّنات الإتّحاد الفدرالي، أي الولايات الفدراليّة، تجاه السلطات المركزيّة. يمكن مثلًا لوزير الداخليّة حلّ بلديّة أو إقالة محافظ. بالمقابل، لا يمكن لوزير داخليّة في دولة فدراليّة إصدار قرار حلّ كانتون، أو إقالة حاكم ولاية أو تغيير دستورها. بالحقيقة –وهنا لبّ الموضوع– لا يمكن للسلطة المركزيّة تغيير صلاحيّات الوحدات المحليّة بالفدراليّة من دون موافقة هذه الوحدات نفسها. هنا الحصانة الحقيقيّة للّامركزيّة التي يؤمنّها النظام الفدرالي. وبشكل عام، بمقدار ما يكون المجتمع متجانسًا من النواحي الدينيّة أو اللغويّة أو الجهويّة، تنحو السلطات لاعتماد شكل الحكم المركزي، وهو أقلّ تعقيدًا من الأنظمة الفدراليّة على أنواعها. بالمقابل، بمقدار ما يكون المجتمع متنوّعًا على مستوى الهويّة، بمقدار ما تنحو المجتمعات صوب الفدراليّة لإدارة تنوّعها. أمّا أكثر الخيارات إشكاليّة، فهي فرض نظام حكم مركزي، على مستوى المؤسسات السياسيّة (Institutions)، على شعب متنوّع لناحية البنية المجتمعيّة (Societal Structure). وهذه بالظبط الحالة الشاذّة في لبنان.

وأمّا النظام الفدرالي الجغرافي، فيقوم في الدولة التي تتّبع اللامركزيّة السياسيّة، من دون أن تتفق حدود الوحدات الفدراليّة مع مناطق سكن خاصّة بهويّات أو طوائف معيّنة. في الولايات المتّحدة مثلًا، جماعات كالأوروبيّين-الأميركيّين (البيض) والأفارقة-الأميركيّين (الزنوج) أو اللاتينوز؛ ولكن، لا يوجد تقسيمات جغرافيّة تقوم على أساس عرقي. في كلّ ولاية أميركيّة أعراق مختلفة، والفدراليّة في هذه الحالة نتجت عن ظروف تاريخيّة محدّدة، منها مثلًا أنّ الولايات المختلفة كانت بالأصل مجتمعة باتّحاد كونفدرالي، وأن الفدراليّة سمحت بالانتقال من الكونفدراليّة الى الدولة الواحدة، مع طمأنة الولايات المختلفة إلى أنّها ستظلّ تتمتّع بنوع من استقلاليّة ذاتيّة بدل أن تدار كلّ أمورها من المركز (ألمانيا نموذج آخر مشابه في هذا الاطار، والأرجنتين أيضًا).

وأمّا الإثنو-فدراليّة، فهي نظام فدرالي يعطي الجماعات حقّ إدارة شؤونها عبر ولايات تكون لها موطنًا تاريخيًّا. ثمّة دول إثنو-فدراليّة كليًّا (فكّر في بلجيكا)، بمعنى أن كلّ الوحدات الجغرافيّة للدولة الفدراليّة تعبّر عن هويّات مجتمعية محدّدة (هي في الحالة البلجيكيّة، الوالون، أي البلجيك الفرنكوفون، والفلامند، أي البلجيك الناطقين باللغة الهولنديّة). وثمّة أيضًا كما ذكرنا دول إثنو-فدراليّة جزئيًّا (فكّر في كندا)، بمعنى أنّ جزءًا من الوحدات الفدراليّة يكون منظّمًا حول هويّة مجتمعيّة محدّدة (الكيبيك الفركوفوني في الحالة الكنديّة؛ أو كردستان في العراق؛ أو كاتالونيا في اسبانيا. وهذا ما أسميناه في مقدّمتنا بالفدراليّة المركّبة)، على أن تنظّم الوحدات الأخرى على أساس الفدراليّة الجغرافيّة. وسواء كانت الإثنو-فدراليّة تامّة أو جزئيّة، يبقى أنّ شرطها الشارط هو الخروج من وهم الوطن/الأمّة -كما روّجت له إيديولوجيا الثورة الفرنسيّة بنسختها الجاكوبينيّة، المتأثرة بمفهوم روسو للدولة- ومن خرافة "الإنصهار الوطني"، باتّجاه القبول بالتعدديّة المجتمعيّة لا كمرض ينبغي علاجه، ولا كمرحلة ينبغي تخطّيها حكمًا، بل كشكل خاصّ من أشكال البنى المجتمعيّة ينبغي الاعتراف به، وتنظيم أموره وفقًا لما يناسبه. هذا النظام، أي الإثنو-فدراليّة، ينجح أحيانًا بتجنيب المجتمعات التعدديّة إشكالات الإنفصال (مجدّدا، فكّر في بلجيكا، المستمرّة كوطن واحد بالرغم من تعقيدات مسألة الهويّة فيها) ويفشل في أحيان أخرى. والحال أن مآلات دول إثنو–فدراليّة كالإتّحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا، غالبًا ما تستخدم كدليل على فشل النظام اللإثنو–فدرالي. ولكن هذه الدول كلّها كانت تعيش في ظلّ أنظمة شيوعيّة، حيث السلطة الحقيقيّة بيد الحزب الحاكم، تمارسها نخبته بطريقة غير ديموقراطيّة. بمعنى آخر، كانت هذه الدول فدراليّة بالإسم، ومركزيّة لجهة الممارسة الحقيقيّة للسلطة. ثمّ أن هذه الدول كانت تعاني من فشل أنظمة الإنتاج الشيوعيّة بتحقيق الرخاء الاقتصادي، وتمرّ بأزمات خانقة في الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم هي أزمات التحوّل من الاقتصاد الموجّه، الى إقتصاد السوق الحرّ.

أن تفشل الإثنو–فدراليّة في دول معيّنة ومعطيات تاريخيَة محدّدة (كما ذكرنا سابقًا، فكّر في يوغوسلافيا، أو تشيكوسلوفاكيا)، لا يعني بالضرورة أنّ فشلها محتّم في معطيات أخرى. في يوغوسلافيا، ينبغي الانتباه الى الرواسب التاريخيّة السابقة لتبنّي النظام الإثنو–فدرالي كمعطى أساس لا يمكن تغييبه عند تشريح مسار الأمور. مثلًا، العلاقات بين الصرب والكروات كانت مأزومةً أصلًا حتّى عندما كانت يوغوسلافيا مملكة تتّبع نظامًا مركزيًّا. عندما تغيّر شكل النظام لاحقًا، ورثت الدولة اليوغوسلافيّة الجديدة المشاكل القديمة، ولم تنجح بحلّها عبر الإثنو–فدراليّة. هذه النقطة تستحقّ التكرار: قبل أن تفشل الإثنو–فدراليّة بإدارة التنوّع في يوغوسلافيا، فشل النظام المركزي فيها أيضًا. هناك دول لا ينفع أيّ نظام حكم بإدارة تعقيداتها. وجودها أصلًا فكرة عاطلة.

يوغوسلافيا نموذجًا: من فشل النظام المركزي الى فشل الإثنو-فدراليّة

نشأت المملكة اليوغوسلافيّة عام 1918 كتجمّع للصرب والكروات والسلوفين، وكان الاسم الرسمي لها "مملكة الصرب، والكروات، والسلوفين". من الأساس، كان الصرب هم العنصر الطاغي والحاكم. إعترضت نخب الجماعات الأخرى على الشكل المركزي للدولة، وطالبت بالكونفدراليّة، أو الانفصال التامّ. ردّ الملك الصربي ألكسندر على مطالب الكروات باتّباع سياسة مركزيّة صارمة حفاظًا على وحدة المملكة. حاول أيضًا خلق هويّة جديدة يوغوسلافيّة عابرة للطوائف التي رأى ضرورة دمجها لتشكيل هويّة جديدة، هي الهويّة اليوغوسلافيّة. هكذا أعاد تسمية بلاده "المملكة اليوغسولافيّة"، ومنع كلّ الأحزاب الدينية أو الجهويّة أو الإثنيّة، وأعاد تشكيل النظام التربوي للترويج لفكرة الجذر المشارك لكلّ اليوغوسلافيّين، وللوحدة الوطنيّة. بمقدار ما استمرّت هذه السياسة، تصاعد الاعتراض الكرواتي خصوصًا، الذي رأى في فكرة "يوغوسلافيا" غطاءً واهيًا لحقيقة السيطرة الصربيّة على الدولة. وتفاديًا للحرب الاهليّة، قبل القادة الصرب عام 1939 التراجع عن سياسة الانصهار الوطني لمصلحة الإعتراف بالتعدّدية، والانتقال من الدولة المركزيّة الى الإثنو–فدراليّة. ومع وقوع الحرب العالميّة الثانية، واحتلال يوغوسلافيا من قبل ألمانيا النازيّة، نظّم جوزيف بروز تيتو حزبه الشيوعي المقاوم للاحتلال على أساس إثنو–فدرالي، وتعهّد ببناء الدولة، بعد التحرير، على أساس إثنو-فدرالي أيضًا. هذا ما حدث فعلًا، لكنّ الخلافات بين الصرب والكروات استمرّت، وتصاعدت بعد محاولة الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش تقوية السلطة المركزيّة على حساب الولايات الفدراليّة، وصولًا إلى الحرب الأهليّة عام 1992، وتشظّي يوغوسلافيا، بعد انفصال مكوّناتها. بهذا يكون تاريخ يوغسلافيا عبارة عن فشلين: فشل النظام المركزي، ثمّ فشل الإثنو–فدراليّة، بإدارة التعدّية. كلّف الفشلان ثمانية عقود فيها ما فيها من الصراع، والحروب، والمآسي. هل كان ينبغي أن تقوم يوغوسلافيا أصلًا؟

تشيكوسلوفاكيا نموذجًا : من فشل النظام المركزي الى فشل الإثنو - فدراليّة

نشأت تشيكوسلوفاكيا عام 1918 كتجمّع لقوميّتين، التشيك والسلوفاك، وقامت أساسًا كدولة مركزيّة. رفض العنصر الطاغي، أي التشيك، مطالب الفدرلة أو الاستقلال الذاتي، خوفًا لا فقط من انفصال السلوفاك، بل أيضًا، من أن تنحو الأقليّات الأخرى (أي الألمان، والمجريّين)، نحوًا مشابهًا. ومع تفرّد النخبة التشيكيّة بإدارة الدولة، تمّ استبعاد الأحزاب "الطائفيّة" السلوفاكيّة أو الألمانيّة أو المجريّة باعتبارها تمثّل تطلّعات غير مقبولة تهدّد وحدة الدولة. افترضت الإيديولوجيا الحاكمة أنّه من الممكن دمج العناصر المكوّنة لتشيكوسلوفاكيا في بوطقة وطنيّة واحدة، عبر رفع مستوى تعليم السلوفاك ليلحقوا بالتشيك المتقدّمين عنهم. حقّقت هذه السياسة نتائج طيّبة على الصعيد التربوي، ولكن سرعان ما تبيّن أن الأجيال الجديدة المتعلّمة من السلوفاك أكثر شعورًا بهويّتهم السلوفاكيّة القوميّة من الأجيال السابقة. وفي العام 1938، اضطّرت النخبة التشيكيّة الحاكمة للتراجع عن سياستها والاعتراف بالهويّة السلوفاكيّة، وتغيرّ اسم البلاد الى تشيكو–سلوفاكيا. ثمّ كان أن غزت ألمانيا النازيّة البلاد، وأعلنت استقلال سلوفاكيا. بعد الحرب العالميّة الثانية، اضطرّت النخبة التشيكيّة للاعتراف بالسلوفاك بصفتهم "أمّة سيّدة مستقلّة"، وعادت تشيكوسلوفاكيا إلى الوجود كإطار إثنو–فدرالي يجمع بين قوميّتين مستقلّتين. ومع أنّ التسوية أعطت السلوفاك حقّ الفيتو على القرارات المهمّة التي تتخذها الدولة، استمرّ التوتّر بين القوميّتين – على خلفيّة اتجّاه تشيكي دائم لتقوية الحكومة المركزيّة على حساب الولايات الفدراليّة، واتّجاه سلوفاكي للعكس تمامًا– وصولًا إلى الانفصال عام 1993. بهذا فشلت تشيكوسوفاكيا مرّتين، كدولة مركزيّة، وكدولة إثنو– فدراليّة. هل كان ينبغي أن تقوم تشيكوسلوفاكيا أصلًا؟

والحال أنّ معظم الدول لا تّتبع النظام الإثنو–فدرالي فور ولادتها. ثمة دول تجرّب المركزيّة، أو الفدراليّة الجغرافيّة، ثمّ تفشل في إدارة تنوّعها المجتمعي، فتلجأ إلى الإثنو–فدراليّة. وإذا فشل هذا النظام أيضًا، فيعني أنّ شيئًا لم ينجح للحفاظ على الدولة، لا الإثنو–فدراليّة فقط. في هذه الحالات، يصبح الانفصال هو آخر الدواء، علمًا أنّ قيام الدولة الواحدة فيها كان خطأً من الأساس.

بالنسبة إلى بلادنا، نزعم هنا ما يلي: 1) أيّ شكل من أشكال الفدراليّة، سواء كان إثنو-فدراليًّا، أو فدراليًّا جغرافيًّا، أو فدراليًّا مركّبًا، أفضل للبنان من النظام المركزي. 2) سنتوسّع لاحقًا بمسألة تقسيم الولايات الفدراليّة في لبنان. وبمعزل عن كلّ الاتّهامات والنفاق والضوضاء التي تحيط بالطرح الفدرالي، نسأل بهدوء: ما الضرر من تحويل الأقضية اللبنانيّة إلى ولايات فدراليّة؟ 3) البدائل الحقيقيّة عن الفدراليّة غير موجودة. نسجّل هنا، أنّ الكثيرين يستسهلون انتقاد الفدراليّة، ورميها بأقذع النعوت. ولكن مجرّد أن نسألهم: "حسنا، ما البديل؟ أي نظام آخر غير الفدراليّة يمكن لنا أن نتّبعه، لتنظيم شؤوننا؟"، حتّى يخيّم عليهم صمت القبور، أو يعودون للدفاع عن شكل من أشكال النظام المركزي، وقد فشل بوضوح.

والحال أنّنا نتفهّم بعمق المخاوف التي تثيرها الفدراليّة، وتحديدًا الإثنو-فدراليّة. الخوف الأوّل طبعًا يتعلّق بوحدة الدولة. هناك دول إثنو–فدراليّة عرفت أزمات كبرى لأنّ مكوّناتها اختارت الانفصال. أدّى هذا في بعض الحالات الى زوال الدولة عمليًّا عن الوجود (تكرارًا، فكّر بيوغوسلافيا، الاتّحاد السوفياتي، تشيوكوسلوفاكيا). المسألة هنا هي التالية: هناك من يزعم أنّ الإثنو–فدراليّة تعزّز الرغبة في الانفصال (عبر تعزيز شعور الجماعة بهويّتها المتمايزة عن الهويّات الاخرى)، والقدرة عليه (عبر انشاء مؤسّسات سياسيّة وأمنيّة وقضائيّة يمكن بسرعة تحويلها الى مؤسّسات دولة مستقلّة، لا مجرّد ولاية فدراليّة، عندما تنحو الأمور صوب الانفصال). الخوف الثاني يتعلّق بطبيعة النخب الحاكمة التي تفرزها الإثنو–فدراليّة. هناك من يزعم أنّ التكوين الطائفي للولايات الفدراليّة يسهّل وصول قيادات تثير النعرات الطائفيّة وتستخدم المزايدة الطائفيّة (Outbidding) للوصول الى السلطة. كما ينبع الخوف الثالث من اعتراض على مساواة الكانتونات أو الولايات الصغيرة مع الولايات الكبيرة، وهذه مساواة تضمنها الدساتير الفدراليّة عادةً لأنّ الخلفيّة الليبراليّة للمشروع الفدرالي تركّز على حماية الاقليّات. ولكنّ هذا المنطق غالبًا ما يثير حفيظة الأغلبيّات باعتبار أنّه يجحفها حقّها، ويعطي الأقليّات صلاحيّات وامتيازات لا يبرّرها حجمها الديموغرافي. كلّ هذه المخاوف تستحقّ التبصّر والتفكير. مع ذلك، نعتقد أنّه لا يوجد حلّ سهل لمشاكلنا، وهي بالغة التعقيد. لقد قال ونستن شرشل يومًا إنّ الديموقراطيّة هي أسوأ نظام، باستثناء كلّ الأنظمة الأخرى. بالحدّ الادنى، الفدراليّة هذا أيضًا: أسوأ طريقة لإدارة التعدّدية المجتمعيّة، باستثناء كلّ الطرق الاخرى.

لماذا نحن فدراليّون (8/23): بخصوص الفدراليّة ومقولة

غالبًا ما يُقال لنا عندما ندافع عن الفدراليّة إنّنا نتخلّى عن رسالة لبنان. الحقيقة أنّنا نعلم أنّ لبنان أكثر من وطن كما يفترض، بل رسالة، بحسب الشعار الشهير للبابا يوحنّا بولس الثاني. يحقّ لنا أن نسأل: لماذا يتعارض النظام الفدرالي مع رسالة لبنان؟ والأهمّ: ما هي هذه الرسالة تحديدًا؟ ربّ قائل طبعًا إنّ لبنان رسالة عن إمكانيّة التعايش بين مسيحيين ومسلمين في بلد واحد. البابا الراحل نفسه أراد الرسالة المفترضة للبنان أن تكون مبنيّة على احترام الحريّات، والتعددّية. وهذا بذاته عظيم، طبعًا. ولكن، إذا كان ثمن المشروع اللبناني مئة عام من التوتّر الطائفي والحروب الأهليّة المتناسلة والمآسي، وصولًا إلى الدولة الفاشلة التي نعيش فيها حاليًا، أليس هذا الثمن كبيرًا كي يدفعه اللبنانيّون، جيلًا بعد جيل، من أجل "الرسالة"؟ والحال أنّ الصراع اللبناني–اللبناني ولد مع ولادة الجمهوريّة اللبنانيّة عام 1920 . في مرحلة الحكم الفرنسي، لم يتّفق اللبنانيّون على موقف موحّد من الانتداب، ولا أساًسا اتّفقوا على فكرة قيام لبنان عندما قام. بالعشرينات، حدثت مجازر طائفيّة بجنوب الدولة الوليدة، استهدفت قرًى مسيحيّةً اتُّهمّت بالتعاون مع الفرنسيّين. لاحقًا، انقسم اللّبنانيّون وتقاتلوا مرّة، ومرّتين، وعشرة. واعتبارًا من العام 2005، سيطر حزب اللّه تدريجيًّا على البلد، ووصلنا إلى انهيار لبنان الإقتصادي، وانفجار 4 آب. هذا هو تاريخنا، فأيّ رسالة تحديدًا ممكن له أن يقدّم؟ وإذا كان ضروريًّا أن يموت مئات آلاف من الناس لنبرهن أنّ "لبنان رسالة"، فربّما لا يكون شعار لبنان الرسالة سوى كليشيه آخر متداول في خطابنا السياسي الغني بالشعارات، والفقير بالمضمون. الفدراليّة، بالمقابل، ليست شعارًا وكليشهيّات فارغة. الفدراليّة مدخل من مداخل الحلّ.

لا تعارض، أيضًا بين الفدراليّة ووحدة لبنان. المعادلة التالية صحيحة في كلّ مكان من العالم: الفدراليّة تفيد الجماعات كلّها في المجتمعات التعدديّة، بغضّ النظر عن لعبة الأعداد والأحجام الديموغرافيّة. مثلًا، صحيح أنّ الفدراليّة في كندا تعطي ضمانات للأقليّة الفرنكفونيّة، ولكنّها لا تسيء بالضرورة الى الغالبيّة الأنغلوفون. الفدراليّة في بلجيكا تضمن حقوق الوالون، ولكنّها لا تضطهد بالضرورة الفلامند، وهكذا. والحال أنّ رفض الفدراليّة عامّةً يستبطن وعيًا أكثريًّا يحتقر الأقليّات. مثلًا، في العراق النخب الكرديّة طالبت تاريخيًّا بالفدراليّة، والنخب الحاكمة العربيّة ظلّت تصرّ على أكثر درجة ممكنة من الحكم المركزي، إلى أن بدأ الأكراد يطالبون بالتقسيم. في الهند بعد الاستقلال، طالبت النخب المسلمة بالفدراليّة، والنخب الهندوسيّة رفضت، فدفعت المسلمين دفعًا إلى الانفصال وإنشاء باكستان. ومنذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، طالبت نخب عربيّة بالحكم الذاتي وبحقوق لغويّة وثقافيّة، أي بشكل من أشكال الفدراليّة في ظلّ العرش العثماني، ولكنّ المتطرفيّن الأتراك الطورانيّين رفضوا. كلّ تجارب المجتمعات التعدديّة تدلّ على ما يلي: المتطرّف الحقيقي، والتقسيمي الحقيقي، هو من لا يبالي بقضايا الأقليّات لأنّه يحتقرها. من ينكر أنّ للأكراد كأقليّة قضيّة محقّة في العراق، أو الأقليّة العربيّة في إيران، أو المسيحيّة في مصر، هو الطائفي والتقسيمي، لا سواه. ولو يغطّي هذا المتطرّف كراهيّته الطائفيّة بشعار علمانوي أو توحيدي، لا يجعل هذا منه علمانيًّا أو توحيديًّا، بل كذّابًا، إضافةً إلى كونه طائفيًّا.

والحال أنّ التنكّر لمسألة الأقليّات والسعي لطمسها عبر هذه أو تلك من الإسقاطات الإيديولوجيّة –كمحاربة اسرائيل مثلًا؛ أو "التصدّي" للغرب؛ أو مشاريع الوحدة المختلفة، وعموم الطروحات العابرة للحدود– يدفع المجتمعات إلى الاستقطاب، والجماعات المغبونة إلى التفكير في الانفصال. والانفصال هو الجواب الطبيعي والشرعي لأي ّ مجموعة لا يحترم شركاؤها المفترضون بالوطن هويّتها. فكّر، مثلا، بفرض جعفر النميري للشريعة الإسلاميّة على السودان عام 1983، مع أنّ جنوب السودان يتكوّن بغالبيته من العناصر المسيحيّة والإحيائيّة. ردّ فعل الجنوب جدّد الحرب الأهليّة في السودان وأطلق مسارًا انتهى بإعلان استقلال جنوب السودان عام 2011. إنشاء باكستان عام 1947، أو بنغلادش عام 1971، أمثلة مشابهة بمعنى أنّها نتيجة عدم احترام نخب حاكمة أكثريّة لهويّة الأقليّة. نطالب بالفدراليّة لأّننا نؤمن أنّ الانفصال ليس نتيجة حتميّة للتعدديّة المجتمعيّة كما يظهر النموذج الكندي. في العام 1995، طالب قوميّون في الكيبيك بالانفصال عن كندا وبتشكيل دولة مستقلّة. وفي استفتاء أُجري في ذلك العام، صوّتت الغالبيّة في الكيبيك ضدّ الانفصال ولصالح البقاء في كندا. النظام الفدرالي في كندا حافظ على وحدتها وجنبّها انفصال الكيبيك. بمعنى آخر: الفدراليّة في كندا أراحت الأقليّة، فما عادت تطالب بتكوين دولة خاصّة بها. الخلط، تاليًا، بين المطالبة بالفدراليّة والمطالبة بالانفصال أو التقسيم مؤسف، ومشبوه أيضًا. وتهمة التقسيم والطائفيّة التي تلحق بالفدراليّين هي بدورها تهمة مردودة لأصحابها.

لماذا نحن فدراليّون (9/23): بخصوص الفدراليّة والحياد

نحن مع الحياد بدون تحّفظ، ولا نراه طرحًا بديلًا عن الفدراليّة، بل توأمًا لها. بالحقيقة، نحن مع الحياد بقدر ما نحن مع الفدراليّة، لا بل حتى أكثر. بمعنى آخر، نحن مع معادلة: حياد+فدراليّة. كما ذكرنا تكرارًا، الفدراليّة طريقة من طرق إدارة التعدّديّة المجتمعيّة، فضلًا طبعًا عن كونها خريطة طريق لحوكمة أفضل. الحياد بدوره ملحّ لكفّ شرّ المحيط عنّا، ولكي لا نُستخدم مجدّدا، كما استُخدمنا دومًا ونُستخدم اليوم، كساحة لتصفية الحسابات الإقليميّة. الحياد ضروري، كما الفدراليّة ضروريّة، وطرحنا عمليًّا حيادو–فدرالي.

الطائفيّون في لبنان يسمون الحياد بتهم "الإنعزال" و"الإستعلاء" وسائر الهراء القديم–الجديد، المأخوذ من أدبيّات المارونوفوبيا المحليّة. بالحقيقة، لا علاقة للحياد بكلّ هذا. بكلّ بساطة، الدولة المحايدة كيان يمتنع عن المشاركة في الحروب الدوليّة والتحالفات العسكريّة. عند وقوع نزاعات مسلّحة، تمنع الدولة المحايدة المتصارعين من استعمال أراضيها عسكريًّا. كما تعامل الدولة المحايدة هذه الأطراف على قدم المساواة، أي تتجنّب ما يغيّر موازين القوى بينها. بالمقابل، يُفترض بالأطراف المتصارعة الامتناع عن دخول أراضي الدولة المحايدة، أو السعي للهيمنة عليها. كما يفترض فيها الامتناع عن تجنيد أو تمويل جماعات داخلها لغايات سياسيّة. هذا كلّ شيء. أين "الانعزال" في هذا؟ أين "الاستعلاء"؟ دول مثل سويسرا والنمسا وإيرلندا والسويد ومالطا وتركمانستان والفاتيكان محايدة، وهذا بالظبط ما نريده للبنان. خيانة عظمى؟ تآمر خبيث على الأمّة الغرّاء؟ لا نظنّ.

وكما هو معلوم، طالب البطريرك الماروني بشارة الراعي مؤخرًا بإعلان حياد بلدنا، وقوبل فورًا بردّ سلبي من قيادات إسلاميّة، كان أوضحها القيادات الشيعيّة، كالشيخ عبد الأمير قبلان، والمفتي أحمد قبلان. نأسف لهذا الردّ السلبي ونذكّر بما يلي: أوّلًا، محاولات الهيمنة الإقليميّة تتالت على لبنان منذ كان. لو كان محايدًا، لكان أسهل عليه مقاومة التدخّل بشؤونه، ومشاريع الضمّ، أو الاستتباع. ثانيًا، هذه المشاريع سعّرت المشاعر الطائفيّة في لبنان. الموقف من السلاح الفسلطيني مثلًا، قسم لبنان على أساس طائفي. الموقف من إيران اليوم يقسم لبنان على أساسين طائفي، ومذهبي. لو كان لبنان محايدًا، كان أسهل عليه تجنّب الإستقطاب الطائفي. تاليًا، الحياد مصلحة لبنانيّة خالصة. رفض الحياد أكبر جريمة يمكن ارتكابها بحقّ لبنان – ولا عجب أن يكون رافضو الحياد من عتاة أعدائه وكارهيه.

قد يكون من المفيد هنا التوقّف عند المقارنة التالية: في العام 1952، انقسم لبنان بين مؤيّد لرئيس الجمهوريّة آنذاك الشيخ بشارة الخوري ومعارض له. وبالنتيجة، قامت ثورة في البلد، ولكنّها بقيت سلميّة، وانتهت باستقالة الشيخ بشارة وانتقال الرئاسة إلى كميل شمعون. بعدها بستّ سنوات، انقسم لبنان مجدّدًا بين مؤيّد ومعارض لرئيس الجمهوريّة، وقامت ثورة جديدة، ولكنّها هذه المرّة لم تبق سلميّة، وتفاقمت الأوضاع إلى أن بدأت الحرب اللبنانيّة الأهليّة الأولى عام 1958. السؤال هنا هو الآتي: إذا كان اللّاعبون تقريبًا هم ذاتهم بين ثورة 1952 و1958، وإن كان الخلاف تمحور في الحالتين حول رغبة رئيس جمهوريّة بتمديد ولايته، فلماذا بقيت ثورة ال1952 سلميّة، بينما وقعت الحرب عام 1958؟ الجواب هوّ أنّ المشهد الإقليمي عام 1958 كان تغيّر تمامًا بعد صعود الأنظمة الراديكاليّة العربيّة على حساب القوى المؤيّدة للغرب في مصر والعراق وسوريا. وبمجرّد أن تصاعد التوتّر الإقليمي، تصاعد أيضًا الإستقطاب الطائفي في لبنان، وصولًا الى الحرب. نكتب هذه الكلمات في العام 2021 والصراع الإقليمي على أشدّه، خصوصًا بين السعوديّة وإيران. ترجمة الصراع الإقليمي فرزت مجدّدًا استقطابًا طائفيًّا حادًّا، وأزمة حكم مستمرّة منذ العام 2005 على الأقلّ. يعني كلّ ذلك ما يلي: في كلّ مرّة تتوتّر الأوضاع في الإقليم، ينقل هذا الإقليم التوتّر إلى لبنان. أمّا وأنّ الإقليم متوتّر دومًا، فلبنان لم يعرف الإستقرار منذ عقود. وأمّا وأنّ الإقليم يمكن أن يبقى متوتّرًا لعقود بعد، فمن مصلحة لبنان فكّ الإرتباط معه ما أمكن كي يتمكّن من الإهتمام بمشاكله الداخليّة. بالواقع، أيّ دراسة للتأثيرات الخارجيّة على بلدنا تظهر مدى الخراب الذي تسببّ الإقليم به عندنا. تاليًا، رغبتنا في كفّ شرّ الخارج عنّا حقّ طبيعي، لا أكثر أو أقلّ. تكرارًا: وصم هذا الموقف بالإنعزال أو الإستعلاء أو العنصريّة اللبنانيّة المفترضة هو تهمة بالية ورثاثة فكريّة آن لأصحابها تخطيّها.

لماذا نحن فدراليّون (10/23): بخصوص الفدراليّة والعلمنة وشعار الدولة المدنيّة

ما هي العلمنة؟ باختصار، هي فصل الدين عن الدولة. هناك ثلاثة نماذج للدول العلمانيّة يمكن التوقّف عندها: في مقلب، العلمنة المتطرّفة في قمعها للدين (النموذج السوفياتي/الشيوعي)؛ في مقلب آخر، العلمنة الأنغلو-ساكسونيّة، التي تفصل الدين عن الدولة من دون قمع له أو للمؤسّسة الدينيّة؛ وبين الاثنين، نموذج علماني وسطي، إن صحّ التعبير، هو النموذج الفرنسي، الأكثر تشدّدا من النموذج الأنغلو–ساكسوني في فصل الدين عن الدولة، من دون أن يضطهد الدين أو المؤسّسة الدينيّة كما فعلت الأنظمة الشيوعيّة. فعليًّا، النموذج السوفياتي للعلمنة سقط مع سقوط المنظومة الشيوعيّة. يبقى النموذجان الفرنسي والأنغلو-ساكسوني، وفي كليهما الكثير من العبر الصالحة لبلادنا، وإن كنّا أكثر ميلًا في هذا الموضوع (وفي جلّ المواضيع الأخرى) إلى الليبراليّة الأنغلو–ساكسونيّة، أي إلى ضمان حياد الدولة تجاه معتقدات مواطنيها، مع تمييز نطاق عمل المؤسسات الدنيويّة عن المؤسسات الدينيّة، وضمان حقوق هذه وتلك، كلٌّ في مجال اختصاصه. هذا النوع من العلمنة هو ما كان البابا بيوس الثاني عشر أشار إليه وأيّده. وقد انتقد البابا في رسالة له نشرت في شهر آذار من العام 1958 الزاعمين أنّ الكنيسة ضدّ العلمنة بالمطلق، ملاحظًا: "وكأنّما علمانيّة الدولة المشروعة والصحيحة ليست مبدأً من مبادئ العقيدة الكاثوليكيّة الصحيحة".

لنكن واضحين: لا تعارض بين الفدراليّة والعلمنة، ونحن مع الطرحين. كندا وبلجيكا وسويسرا دول فدراليّة وعلمانيّة في آن. مؤسف أن ينقسم لبنان بين مدافع عن الفدراليّة، ومدافع عن العلمنة، كأنّ الأولى تنفي الثانية، أو العكس. العلمنة هي حلّ لمشكلة نزعة الأديان للسيطرة على الفضاء العام وعلى القوانين الناظمة للحياة العامّة. تقدّم الفدراليّة حلًّا للتحدّيات التي تطرحها التعدّديّة المجتمعيّة. يمكن، لا بل يجب، للطرحين أن يتكاملا. نحن في لبنان الفدرالي لا نستسيغ تدخّل الدين ورجاله في الفضاء العام، أي أن مقاربتنا لعلاقة المقدّس بالدنيوي علمانيّة؛ كما نحن مقتنعون بالوقت عينه أنّ المجتمعات التعدّدية تحتاج لنوع من أنواع الفدراليّة لتستقرّ أمورها. لا تعارض بين المنحى الأوّل والثاني. ومع ذلك، نقول إنّ تصوير العلمنة كحلّ للبنان سوء فهم لها، ولطبيعة المشكلة اللبنانيّة.

لنكن واضحين بعد أكثر: عندما تنقسم المجتمعات بين قائلين بفصل الدين عن الشأن العام، وقائلين بالعكس، تأتي العلمنة لتنصر الفكرة الأولى على الثانية. الصراع بين كاثوليك فرنسا وعلمانيّيها مثل كلاسيكي في هذا الإطار. ولكن، عندما تنقسم المجتمعات على أساس الهويّة الطائفيّة أو العرقيّة أو اللغويّة، لا تعود العلمنة هي الحلّ. استطرادًا، القول إنّ العلمنة حلّ لمشاكل لبنان يحيد عن الصواب للأسباب التالية: 1) محور الخلاف في لبنان هو الهويّة الطائفيّة، لا القناعات الدينيّة. المسيحيّون في لبنان لا يريدون تحويل المسلمين الى كاثوليك مثلًا. المسلمون بدورهم لا يسعون لجعل الموارنة سنّة أو شيعة. الخلاف كان قائمًا ولا يزال على الخيارات السياسيّة الكبرى: مثلًا، هل نعطي المسلّحين الفلسطينيّين حريّة العمل الفدائي في أراضينا، وانطلاقا منها، أم لا؟ أو: هل ننحاز الى النظام أو الى المعارضة بالحرب السوريّة؟ هل الولايات المتّحدة صديق أم عدوّ؟ العلمنة لا تقدّم حلًّا لهذا النوع من الخلافات. 2) المملكة المتحّدة دولة علمانيّة، ولكن هذا لم يمنع عقودًا من الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا الشماليّة. بلجيكا وكندا أيضًا دولتان علمانيّتان، ولكن هذا لم يلغ التوتّر بين الوالون والفلامند، أو الأنغلوفون والفرنكوفون. هذه الدول طبعًا اعترفت بتعدديتها المجتمعيّة، وأدارت تنوّعها بالفدراليّة. 3) الأنظمة الشيوعيّة في الإتحاد السوفياتي السابق، أو يوغسلافيا تيتو، كانت علمانيّة. ولكن العلمنة لم تلغ الهويّات الطائفيّة الحادّة، ولا الصراعات بين الأرمن والأذريين مثلًا، أو الصرب والكروات والبوسنيّين. إن لم تقدّم عقود من العلمنة الحلّ لمسألة الهويّة هناك، فلماذا هي الحلّ عندنا؟ لكلّ هذه الأسباب ولسواها، فكرة أنّ العلمنة هي المخرج للبنان غير دقيقة. هذا لا يمنع طبعًا أنّ العلمنة بذاتها مشروع ممتاز، وخطوة تدفع المجتمعات الى الأمام. ولكن حلّ مشاكلنا الأساسيّة ليس بالعلمنة، أو على الأقلّ، ليس بالعلمنة وحدها. واستطرادًا: تراجع التجربة العلمانيّة في تركيا، وصعود المدّ الإسلامي في إيران وعموم الدول العربيّة لا يوحيان أنّ العلمنة قريبة، تقرع على أبواب منطقتنا ووطننا.

نسجّل هنا أنّنا، مع تأييدنا للعلمنة، نستغرب طرح البعض تحويل لبنان الى "دولة مدنيّة". سبب استغرابنا بسيط: من جهة، الحكم المدني هو عكس الحكم العسكري؛ ومن جهة ثانية، الحكم المدني هو أيضًا عكس الحكم الديني. لبنان ليس نظامًا عسكريتاريًّا (مثل مصر أو الجزائر) وليس دولة ثيوقراطيّة، كي يطالب البعض بتحويله الى دولة مدنيّة. استطرادًا، الدستور اللبناني لا يحدّد للدولة دينًا رسميًّا، كما لا يجعل دستورنا من أيّ شريعة دينيّة مصدر التشريع. ماذا يعني الحكم الثيوقراطي؟ ثيوس بالاغريقيّة تعني اللّه. الثيوقراطيّة (Theocracy) تعني حكم اللّه أو الحكم الديني. فكّر بنظام آيات اللّه بإيران مثلًا، حيث السلطة العليا في الدولة هي بيد رجال دين غير منتخبين، وحيث الإسلام هو المنظومة القيميّة التي من خلالها تستمدّ النخبة الحاكمة مشروعيّتها. بمقابل الثيوقراطيّة، أي حكم اللّه، الديموقراطيّة (Democracy) التي تعني حكم الشعب (أي ديموس) بالأصل الإغريقي. للديموقراطيّة أسس مختلفة، أهمّها اثنين: 1) الديموقراطيّة نظام حكم مدني، أساس شرعيّة النخبة الحاكمة فيه هي إرادة الشعب، لا إرادة اللّه. 2) السلطة التنفيذيّة بالأنظمة الديموقراطيّة تصل إلى الحكم عبر انتخابات دوريّة وتنافسيّة. بهذا المعنى، الجمهوريّة اللبنانيّة، منذ نشأت، هي دولة ديموقراطيّة مدنيّة، أقلّه لجهة فلسفتها الدستوريّة. طبعًا، أن يكون لبنان دولة مدنيّة لا يعني أنّ نظامه علماني. للنظام العلماني بدوره شروط عدّة، منها مثلًا أن يحدّد القانون الوضعي، لا الشرائع الدينيّة، قضايا الأحوال الشخصيّة. يعني، بالنظام العلماني، القوانين الناظمة لقضايا الزواج والطلاق والإرث وما شاكل، هي قوانين وضعيّة مصدرها السلطة التشريعيّة، لا النصوص المقدّسة والسلطات الدينيّة. وهذا طبعًا ليس الحال في لبنان، حيث تنجح السلطات الدينيّة في كلّ مرّة في عرقلة أي خطوة الى الأمام لجهة علمنة أحوالنا الشخصيّة، بدءًا بالزواج المدني الاختياري. باختصار، لبنان دولة مدنيّة، غير ثيوقراطيّة، وغير علمانيّة. المطالبة بعلمنة البلد هدف نبيل. بالمقابل، المطالبة بتحويله، وهو المدني أصلًا، لدولة مدنيّة، شعار يرفعه من يسعون بشكل غير مباشر الى إلغاء الطائفيّة السياسيّة، أيّ الى تحكيم لعبة العدد برقاب اللبنانيّين. للتذكير فقط: رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي مع إلغاء الطائفيّة السياسيّة، وضدّ طرح الزواج المدني الإختياري. في الأمر عبرة لا تُخفى على أحد. بالحقيقة، المسلمون من رافعي طرح إلغاء الطائفيّة السياسيّة هم من عتاة الطائفيّين. المسيحيّون من مؤيّديه من عتاة الذميّين.

لماذا نحن فدراليّون (11/23): بخصوص الطرح الفدرالي وسلاح حزب اللّه، أو أي سلاح غير شرعي آخر

أمّا وأنّ الزمن هو زمن إطباق حزب اللّه على لبنان، فلا يمكن التفكير بأيّ مشروع حلّ لبلادنا من دون أخذ هذا المعطى بالاعتبار. ثمّة ثلاث نقاط أساسيّة نرغب في توضيحها هنا:

أوّلًا، نقرّ في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ لبنان أنّ التفكير بتغيير النظام له محاذيره، نظرًا لسيطرة حزب اللّه على مقوّمات الدولة. كما نقول بصراحة ومن دون عقد إنّ التناقض المركزي اليوم في لبنان ليس بين من يؤيّد الفدراليّة ومن يعارضها. التناقض الأساسي في البلد هو بين من يؤيّد سلاح حزب اللّه، ومن يقول بقيام الدولة. مع قناعتنا التامّة بالفدراليّة، نحن على استعداد للتعاون مع كلّ من يؤيّد حصر السلاح بيد الدولة اللبنانيّة، ولو لم يكن مع الفدراليّة. استطرادًا: من يعارض حصر السلاح بيد الدولة اللبنانيّة ليس حليفًا لنا، ولو قال بالفدراليّة. نقف بوضوح ضدّ التفاوض مع حزب اللّه على شكل النظام المقبل، قبل تسليم سلاحه، لأنّ السياسة موازين قوى، ووفق الموازين الحاليّة، أي تغيير لشكل النظام يخدم الحزب، لا المصلحة اللبنانيّة. كما نقف بوضوح ضدّ السلاح الفلسطيني في المخيّمات، وأي سلاح خارج عن سيطرة الدولة اللبنانيّة. هذا لا يمنع من الإقرار أنّ هناك أزمة نظام حقيقيّة في لبنان، ولا بدّ من التفكير بالبديل. هذا البديل واضح بالنسبة لنا: حياد + فدراليّة. لا بدّ تاليًا من دراسة الإثنين والتفكير بكيفيّة مواءمتهما مع الوضع اللبناني. إن تغيّرت الظروف، وسُئلنا: ماذا تريدون يا لبنانيّين؟ من الضروري أن يكون عندنا أقلّه تصوّر لذلك. ولكنّ الأولويّة حاليًّا لمسألة السلاح غير الشرعي، ولا ينبغي أن تنقسم صفوف السياديّين بين مؤيد للفدراليّة ورافض لها، طالما أنّ السلاح موجود وموجّه إلى رؤوسنا جميعًا، كفدراليّين وكغير فدراليّين. نكرّر: حتّى تفرض الدولة سلطتها وحيدةً على أراضي لبنان، السياديّون حلفاؤنا، سواء أيّدوا الفدراليّة أم عارضوها.

ثانيًا، يزعم البعض أن حزب الله يريد الفدراليّة ضمنًا، وأنّنا نلعب لعبته من حيث ندري أو لا ندري عندما نقول بها. نزعم نحن بالمقابل أنّ حزب اللّه لا يريد الفدراليّة للأسباب الآتية: 1) من يطرح الفدراليّة يطرح معها الحياد. الأخير يعني، لو طبّق، إنهاء الاحتلال الإيراني بالواسطة للبنان وتحرير قرار بيروت من قبضة طهران عبر وكلائها المحليّين. من نافل القول إنّ هذا آخر ما يريده حزب اللّه. 2) الحزب يسيطر على السلطة المركزيّة في بيروت ولا يريد توزيع السلطة إلى المناطق، وهذا بالظبط طبعًا ما تفعله الفدراليّة. رُبّ واهمٍ يظنّ أنّ الحزب سيقبل بالفدراليّة لأنّها ستسمح له بالسيطرة على مناطقه. ينسى أصحاب هذا الطرح أنّ الحزب مسيطر على هذه المناطق أصلًا عبر الستاتيكو الحالي، وما يريده هو استمرار التحكّم بالآخرين وفق معادلة "ما لي هو لي، وما لكم لي ولكم". 3) عموم المطالبين بالفدراليّة مسيحيّون، وحزب اللّه لن يهديهم نصرًا ثمينًا يعزّز احتمالات بقائهم في لبنان. إستمرار الستاتيكو الحالي يعني، من ضمن ما يعنيه، إستمرار التراجع الديموغرافي المسيحي بسبب موجات الهجرة، وأيضًا لأنّ أبناء الطبقات الوسطى المسيحيّة المنهارة يمتنعون بأعداد متزايدة عن الزواج لعدم قدرتهم على تحمّل أعبائه. ولو وضعنا جانبًا النفاق والباطنيّة والإزدواجيّة التي تطبع خطاب الحزب، ما يبقى منه هو قوّة طائفيّة بامتياز. وإن كان مسؤولي حزب اللّه سياسيّين يحترفون تدوير الأمور والزوايا، فيكفي ملاجظة الكراهية الطائفيّة المخيفة التي تحرّك جمهوره على مواقع التواصل الإجتماعي، لفهم الخلفيّة العقديّة الحقيقيّة للحزب. ثمّ أنّ جوهر مشروع حزب اللّه يقوم على استتباع لبنان للوليّ الفقيه؛ وجوهر التوجّه المسيحي اللبناني تقليديًّا يقوم على رفض استتباع لبنان لأيّ محور إقليمي، دع عنك أن يكون قادته ملالي طهران. التلاقي التكتي بين نخب مسيحيّة متعطّشة للسلطة بأيّ ثمن وحزب اللّه لا يلغي التناقض العميق بين مشروع الحزب وما يصبو إليه عموم الجمهور اللبناني المسيحي. تاليًا، أي مشروع يشكّل خشبة خلاص للمكوّن اللبناني المسيحي مرفوض من حزب اللّه، والفدراليّة ليست استثناء. 4) التحوّل الفدرالي في لبنان لو حصل ونجح سيوحي فورًا بإمكان اعتماد الحلّ نفسه في سوريا. وهذا ما لا يريده نظام الأسد، بخلاف ما يظنّ الكثيرون. جوهر مشروع النخبة السوريّة الحاكمة يقوم على تطهير "سوريا المفيدة" إثنيّا (يعني حلب، حماه، حمص، دمشق، واللاذقيّة) من السنّة، وإحكام قبضة أمنيّة حديديّة على باقي المناطق. من يسعى لإبادة السنّة أو تهجيرهم في -ومن- سوريا لا يمكن أن يرضى بالفدراليّة فيها، لأنّ جوهر الفدراليّة هو الإعتراف بالتعدّد وتنظيمه، فيما جوهر حكم آل الأسد خنقه. التناقض بين المشروعين جذري، وما لا يريده الأسد في سوريا، لن يشجّعه في لبنان. لكلّ هذه الأسباب، ولسواها، حزب اللّه لا يريد الفدراليّة. من يظنّ أن العكس صحيح منفصل عن الواقع بشكل مؤسف، وكلّ الأمل ألّا ينطبق هذا التوصيف على أحد من الأصدقاء الفدراليّين في لبنان. طرح الفدراليّة اليوم شكل من أشكال الإشتباك السياسي مع حزب اللّه، لا تناغمًا معه بأيّ شكل من الأشكال.

ثالثًا، واستطرادًا للنقطة الثانية، مع أنّ الغاية الأساسيّة من المشروع الفدرالي حلّ المسألة اللبنانيّة على المدى الطويل، فلا ضير من أن تقدّم الفدراليّة أيضًا فائدة تكتيّة في الإشتباك الحالي مع حزب اللّه. المقصود هنا هو الآتي: لقد قدّم تحالف ميشال عون مع الحزب هديّة ثمينة للأخير عزّزت إطباقه على البلاد. لا أمل من تراجع عون عن تحالفه مع الحزب، لأنّه تورّط وتيّاره كثيرًا به. الأمل، بالمقابل، هو بتسريع تراجع شعبيّة ميشال عون بين الجمهور المسيحي. والحال أنّ هذا الجمهور توّاق عمومًا للفدراليّة. والحال، أيضًا، أنّ الجمهور العوني ليس استثناءً هنا، بالعكس تمامًا. استطرادًا، بقدر ما يظهر حزب اللّه كما هو عليه فعلًا، أي العقبة الأساس أمام المشروع الفدرالي في لبنان، والخصم الاولّ للمكوّن اللبناني المسيحي، بقدر ما يصبح تحالف ميشال عون –أو أي طرف مسيحي آخر– مع حزب اللّه مكلفًا بعد أكثر من الوجهة الشعبيّة. تكرارًا: ليس هذا السبب الأساس لاقتناع الفدراليّين بالفدراليّة. ولكن لا ضير به.

باختصار: الفدراليّة حلّ للمسألة اللبنانيّة على المدى البعيد، وتجذير للإشتباك مع حزب اللّه على المدى المباشر. وباختصار أيضًا: نحن سياديّون وحياديّون أوّلًا، وفدراليّون ثانيًا. لا الناحية الأولى من تفكيرنا السياسي ولا الثانية ستجعلنا نضيّع البوصلة بالنسبة إلى مسألة حزب اللّه.

لماذا نحن فدراليّون (12/23): بخصوص مقولة إنّ جيران لبنان لن يقبلوا بالفدراليّة فيه

عندما نقول إنّ مجتمعنا تعدّدي، كما التركيبة المجتمعيّة في بلجيكا أو سويسرا تعدديّة، وإن الحلّ هنا يمكن أن يكون فدراليًّا، كما كان هناك، نجابَه غالبًا بأنّ جيران بلجيكا وسويسرا ديموقراطيّات ليبراليّة مثل فرنسا وألمانيا، في حين أنّ المنظومة القيميّة للمحيط العربي المجاور لنا مختلفة تمامًا. ومع التسليم طبعًا بفارق الجوار بيننا وبين بلجيكا أو سويسرا، نرى أنّ التحجّج بالمحيط لرفض الحلّ الفدرالي للبنان غير مقنع للأسباب الآتية:

أوّلًا، للتذكير، جيران الفدراليّات الأوروبيّة لم يكونوا ليبراليّين وراقيين دومًا. في يوم ما، كانت ألمانيا النازيّة من جيران سويسرا، ولم يكن الاتّحاد السوفياتي بعيدًا عنها. ومع ذلك، تمكّن السويسريّون من التمسك بعمادي بلادهما، أي الفدراليّة والحياد، في خضمّ الحرب العالمية الثانية. لو يحسم اللبنانيّون أمورهم باتّجاه مشروع إنقاذي واحد، تضيق أمام النظامين السوري والإيراني فرص تخريب لبنان وضربه. وبمناسبة الحديث عن سويسرا: قبل أن تصبح البلاد المتقدّمة والمزدهرة التي نعرف، فرّقت بين شعوبها قرون من البغضاء والحروب الأهليّة على خلفيّة الكراهية الدينيّة والإثنيّة. تمكّن السويسريّون تدريجيًّا، ومن فوق بحور الدماء المسفوكة بينهم، من بناء هويّة وطنيّة جامعة، ومن تأطيرها عبر الكونفدراليّة ثمّ الفدراليّة. وفي هذا بدوره عِبَرٌ للبنان ومدعاة للمقارنة والتفكير.

ثانيًا، أي مشروع جيّد للبنان قدّمه الجوار يومًا، أو قبل به، كي ننتظر ما يريده لنا هذا الجوار ونقرّر العمل على أساسه؟ منذ كان لبنان، الأنظمة السوريّة المتعاقبة ما ضمرت له إلّا شرًّا؛ أمّا نظام الأسدين، الأب والابن، فقد سفك من دماء اللبنانيّن بحورًا. نعم، نظام الأسد لن يقبل بالفدراليّة في لبنان. هذا ليس سببًا للتخلّي عنها، بل سببًًا إضافيًّا للتمسّك بها. بوضوح تامّ: إن كانت مصلحة بلادنا بالفدراليّة، وهي كذلك، فلن ننتظر إذنًا من أحد كي نقول بالفدراليّة ونعمل من أجلها، وخصوصًا ليس من غلاة أعداء لبنان في دمشق. نعم، موازين القوى مهمّة. ونعم السياسة ريالبوليتيك. ولكن موازين القوى كانت إلى جانب القوّات الفلسطينيّة لا المقاومة اللبنانيّة عام 1975. ومع ذلك، قاوم اللبنانيّون الاحتلال الفلسطيني لبلادهم. لاحقًا، كانت موازين القوى مجدّدًا في صالح الاحتلال السوري، وقاومه اللبنانيّون كما قاوموا منّظّمة التحرير. المقصود هو الآتي: لم ننتظر بالماضي إذنًا من أحد كي نتصرّف وفق مقتضيات مصلحة لبنان؛ لن نفعل ذلك اليوم. الفدراليّة تخدم لبنان، كما كان طرد الإحتلالين الفلسطيني والسوري يخدمه بالأمس. تاليًا، سنناضل في سبيل الفدراليّة اليوم، كما ناضلنا في سبيل التحرير بالأمس. ما يريده الجيران منّا ولنا لا يحدّد سلفًا لنا مسار بلادنا. هذا تحدّده إرادة اللبنانيّين، أو أقلّه هكذا ينبغي، شريطة ألّا ييأسوا من بلادهم أيًّا كانت صعوبة الظروف الحالية.

ثالثًا، واستطرادًا للنقطة الثانية، موازين القوى متحرّكة. صحيح أنّها تعطي اليوم أعداء لبنان القدرة على تخريب مشاريع التعافي، بما فيها الفدراليّة. ولكنّهم لن يتمكنّوا منّا إلى ما لا نهاية. للتذكير: منظّمّة التحرير لم تكن تريد الرحيل باتّجاه تونس عام 1982؛ ولكنّها رحلت. وبشّار الأسد لم يكن راغبًا بسحب جيشه ذليلًا من لبنان عام 2005، ولكنّه فعل. استطرادًا: ليس كلّ ما يريده أعداؤنا لنا قدرًا لا مفرّ منه. ولا كلّ ما يرفضونه لنا محال أن يتحقّق، لمجرّد أنّهم عارضوه. الجوار يستطيع أن يعرقل الفدراليّة اليوم، صحيح؛ لن يستطيع بالضرورة منعها إلى الأبد. للتذكير أيضًا: في العام 2013، بدا لوهلة أنّ نظام بشّار الأسد اقترب من الانهيار، وهو كان كذلك فعلًا. بقاء النظام يومها لم يكن قدرًا لا مفرّ منه، بل صنعته ظروف محدّدة، يمكن أن تتغيّر في المستقبل. ولا بقاء النظام الإيراني اليوم قدرًا لا مفرّ منه الى الأبد، ولا أيضًا سلاح حزب اللّه في لبنان. هذا لا يعني أنّ الأمور ستتجّه وفق مصلحة لبنان حتمًا، وبالقريب العاجل؛ بل يعني أنّ الأمور لن تعاندنا بالضرورة، مهما فعلنا، وإلى الأبد. المهمّ أن نصمد، وأن نعمل قدر المستطاع من أجل لبنان، بقدر ما تسمح الظروف. المهمّ أيضًا أن يكون تصوّرنا واضحًا لما نريد، وأن نهيّئ تدريجيًّا له الظروف المناسبة. هذا يعني تفسير مشروعنا لأكبر عدد ممكن من اللبنانيّين، ومن صانعي القرار الدوليّين، ثمّ انتظار الظروف المناسبة للإنتقال من النظري إلى العملي. هذا بالظبط ما نعمل عليه، ومن أجله.

باختصار: نحن في لبنان الفدرالي لبنانيّون، نفكّر كلبنانيّين بمصلحة بلادنا. الحقائق الجيوبوليتيكيّة ليست غائبةً عن بالنا. ولكنّنا لا نظنّ أن الفدراليّة في لبنان مستحيلة فقط لأنّ بشّار الأسد وعلي خامنئي لا يرغبان فيها. نكرّر: لم يتمكّن أعداء بلادنا منّا دومًا؛ لن يتمكّنوا منّا إلى الأبد.

واحدة من الاعتراضات على التفكير الفدرالي أنّ العنف في لبنان يندلع أيضًا داخل الطوائف، لا فقط بين الطائفة والأخرى. تاليًا، وفق أصحاب هذا المنطق، حتّى لو وجدت الفدراليّة حلّا للمشكلة الثانية، أي العنف بين الطوائف، فهي لن تحلّ بالضرورة المشكة الأولى، أي العنف داخل الطوائف. ردّنا هنا هو ما يأتي:

أوّلًا، عندما نفكّر في العنف داخل الطوائف في تاريخنا المعاصر، نفكّر خصوصًا بالصراع الشيعي–الشيعي بين أمل وحزب اللّه، والمسيحي–المسيحي بين القوّات اللبنانيّة ووحدات الجيش اللبناني الموالية للعماد عون، أي ما اصطلح على تسميته بحرب الإلغاء. هذه المواجهات، على قساوتها، لم تتسبّب بالحرب اللبنانيّة التي كانت سبقتها بسنوات. ما تسبّب بهذا الانهيار عام 1975 هو خلاف بين الطوائف، لا داخلها. أصل الشرّ، إذًا، هو الاستقطاب بين اللبنانيّين على قاعدة طائفيّة (مسيحي/مسلم؛ شيعي/سنّي؛ ماروني/درزي)، لا الخلافات داخل الطوائف ذاتها. تاليًا، إذا تمكنّا من حلّ المشكلة الأصل (أي الخلاف بين الطوائف)، نكون سهّلنا حلّ المشكلة الفرع (أي الخلاف داخل الطوائف). بهذا المعنى، تقدّم الفدراليّة حلّا للمشكلة الأساس في لبنان، ولو لم تقدّم حلّا لكلّ مشكلة فيه.

ثانيًا، واستطرادًا، الصراع داخل الطوائف سياسي وليس أهليًّا. صحيح أنّه يمكن أن يأخذ طابعًا حادًّا وعنفيًّا، ولكنّه يبقى مع ذلك صدامًا بين زعماء ينتهي بنهايتهم. لقد تقاتل بشير الجميّل وداني شمعون، وكان صراعهما دمويًّا في الثمانينات. أي تبعات لهذا الصراع اليوم بعد ضمور زعامتي آل الجميّل وآل شمعون؟ بالمقابل، ميراث القرن التاسع عشر الدموي بين الموارنة والدروز لا يزال حيًّا في الذاكرة الجماعيّة الى اليوم. ثمّ أنّ الصراع داخل الطوائف لا ينتج تطهيرًا عرقيّا؛ الأمر عينه ليس صحيحًا بالنسبة إلى الصراع بين الطوائف. ليس القصد من هذا التخفيف من أهميّة الصراع على السلطة، والعنف داخل الجماعات؛ ولكن، تكرارًا، أساس الشرّ يبقى الصراع بين الطوائف لا داخلها.

ثالثًا، الفدراليّة لا تنفي وجود دولة مركزيّة فاعلة. أكثر من ذلك: لا يمكن أساسًا بناء دولة فدراليّة بغياب الدولة المركزيّة. لنفترض أنّ خلافًا وقع داخل الكانتونات المكوّنة للدولة الفدراليّة، ولنفترض أيضًا أنّ هذا الخلاف اتّخذ طابعًا عنفيًّا، ولنفترض أخيرًا أنّ السلطات داخل الكانتونات عجزت عن وقف العنف، أو أنّها توّرطت به. لا شيء يمنع السلطات المركزيّة من حسم الموقف وفرض الأمن عبر القوّات الموضوعة بتصرّفها. المكوّنات الفدراليّة تبقى، في آخر المطاف، جزءًا من بلاد واحدة ذات سيادة غير منقوصة، ولا تملك سيادة خاصّة بها. لا يمكن للكانتونات رفض وجود جيش البلاد فيها أو منعه من فرض الأمن متّى استدعت الأمور ذلك.

لماذا نحن فدراليّون (14/23): بخصوص أنّ الشعبويّة السياسيّة تنسف أساس الفدراليّة في بلبنان

لنكن صريحين كفدراليّين مع أنفسنا أوّلًا، ومع الآخرين: الفدراليّة حلّ لمشاكل كثيرة في لبنان، وليست كذلك لمشاكل أخرى كغياب الاتّفاق على السياسات الخارجيّة، بين مؤيد لايران، وآخر وطني لبناني، أو بين موال للنظام السوري، وآخر معارض له، وهكذا. نعلم جميعًا، أو أقلّه ينبغي أن نعلم، ما يأتي: 1) هذا النوع من الإنقسامات في صميم معضلتنا الوطنيّة في لبنان. الحلّ هنا يقدمّه الحياد، لا الفدراليّة وحدها. 2) الهويّتان العابرتان للحدود السنيّة والشيعيّة أكثر ارتباطًا بقضايا المنطقة من هويّات مجتمعيّة أخرى، خصوصًا الهويّة المسيحيّة في جبل لبنان. استطرادًا: التغيير باتّجاه الحياد أصعب على اللبنانيّين المسلمين من اللبنانيّين المسيحيّن، باعتبار أنّ أقصى أماني هؤلاء هو فكّ الإرتباط ما أمكن مع محيط يرونه جلّابًا للرعب الخالص (نظام حافظ الاسد، نظام الخميني، مخابرات جمال عبد الناصر، إلخ)، والنكبات.

طيّب. بهدوء، وبالمنطق: إن كنت أطلب من فلان أن يخفّف نسبة تماهيه مع أنسباء له خارج الحدود، وأن يرفع بالمقابل من نسبة تماهيه معي كشريك له في الوطن، كيف لي أن أرفق طلبي هذا باللّعنات والشتائم، ثمّ أتوقّع منه قبوله؟ كيف يمكن لسنّي، مثلا، ألّا يطلب العون من السعوديّة أو تركيا، بينما تحيط به في لبنان بندقيّة شيعيّة مصوّبة على صدغه، وسنّوفوبيا مسيحيّة لا يكلّف العونيّون أنفسهم عناء إخفائها؟ الحال أنّ الوجه الآخر لإقناع الطوائف بالحياد هو إقناعها أيضًا أنّ لا خطر عليها في لبنان، وأنّها ليست بحاجة لظهير إقليمي أو حماية من أحد. استطرادًا: هناك علاقة عكسيّة بين حظوظ الحياد (والفدراليّة)، من جهة، وبين الإستقطاب الطائفي الداخلي اللّبناني من جهة أخرى. بمقدار ما يزداد الإستقطاب بين اللبنانيّين، بمقدار ما تنتفي حظوظ التقائهم حول فكرة حياد البلاد، وهو شرط خلاصها. استطرادًا أيضًا، وبوضوح: مع أنّ خطاب الحياد (والفدراليّة) يجذب إليه عددًا من جماعة حلف الأقليّات الّذين يقدّمون أنفسهم كغلاة المسيحيّين في لبنان، لا علاقة منطقيّة بين سياساتهم والفدراليّة. بالحقيقة، أن نقول أنّ غلاة السنّوفوب ليسوا عضدًا للحياد أو الفدراليّة صحيح، ولكن هناك ما هو صحيح بعد أكثر: هم مقتلهما في لبنان.

نكرّر: المشروع الوطني اللّبناني بدأ مارونيًّا حصرًا في القرن التاسع عشر. خرجت الفكرة تدريجيّا باتّجاه طوائف مسيحيّة غير مارونيّة، ثمّ ضمّت إليها، بعد مسار تاريخي طويل ومتعرّج، مسلمين. ثمّة مسلمون اليوم لبنانيّون لا فقط بمعنى أنّهم يحملون جواز سفر لبنانيًّا، بل بمعنى التماهي الشعوري مع لبنان، كبلد لهم، وكهويّة. لا عجب تاليًا، أن يلقى الحياد، بل أن تلقى الفدراليّة نفسها، قبولًا عند أعداد متزايدة من اللبنانيّين المسلمين. هؤلاء تعبوا، كما تعب المسيحيّون، من مآسي لبنان، ومن الحروب الدائمة. أي فائدة نجني، كفدراليّين، وكلبنانييّن حياديّين، من صدّهم؟ أي فائدة من التكرار أنّنا ندفع ضرائب أكثر منهم، أو أنّنا "أفضل"، أو أنّ مناطقنا "أجمل"؟ كشعبويّة وطريقة رخيصة لصناعة الزعامة والنجوم، لهذا الخطاب كلّ الفائدة طبعًا. بالمقابل، من زاوية الحياد، والفدراليّة، لا فائدة منه إطلاقًا. وعمومًا، هو ليس خطابنا. ولن يكون.

في خطاب شهير لبشير الجميّل عام 1978، قال إنّ صيغة 1943 قد ماتت ودُفنت وقد "وضعنا حرّاسًا على قبرها كي لا تقوم". كان الطرح راديكاليًّا، ولم يكن سرًّا أنّ البديل الذي فكّر فيه أقطاب الشرقيّة آنذاك كان ضربًا من ضروب الفدراليّة. ولكنّ بشيرًا استشهد واستمرّت الصيغة، ومعها آلام لبنان.

بعد بشير الجميّل، قال سمير جعجع أيضًا بالفدراليّة. ولكنّ خطاب الفدراليّة في القوّات تراجع بعد العام 2005. دعا سامي الجميّل بدوره للفدراليّة في مطلع حياته السياسيّة. ثمّ اختفى خطاب الفدراليّة في الكتائب.

ليس الهدف ممّا سبق المزايدة على أحد. نحترم حقّ الجميع بتغيير رأيهم بخصوص الفدراليّة أو سواها. والأهمّ أنّنا نؤمن بوحدة كلّ القوى السياديّة في مواجهة السلاح غير الشرعي ومشاريع الهيمنة على لبنان، وسنسير بوحي هذا الهدف. قلنا ونكرّر: كلّ السيادييّن حلفاؤنا ولو غير فدراليّين. القصد من هذه الحلقة توضيح ما يأتي: واحدة من مشاكل الفدراليّة في لبنان هي أنّ التلويح بها موسمي. بشكل عام، يبدأ زعماء الموارنة مساراتهم "على اليمين": عندما يكون الزمن زمن بناء القاعدة الشعبيّة وتثبيت الموقع في مطلع الحياة السياسيّة، يجري الحديث سهلًا عن الفدراليّة، وعمّا بعد بعدها أحيانًا. بالمقابل، بعد تثبيت الزعامة المارونيّة، يأتي دور التفكير برئاسة الجمهوريّة. هنا يختفي خطاب الفدراليّة، ويحين موعد إعادة اكتشاف جاذبيّة الصيغة، وجمال التسوية مع زعامات المسلمين.

نحن عالقون منذ عقود في هذه المعادلة المستحيلة: صيغة مركزيّة فاشلة؛ طرح فدرالي تكتيكي لا استراتيجي. الجمود الناتج عن هذه المعادلة قاتل، وأوضاعنا المزرية من نتائج هذا الجمود.

قلنا مرارًا إنّ ما يحرّكنا هو معادلة: حياد + فدراليّة. لا هذا الطرح جديد ولا ذاك. ولكنّنا نفكّر بهما وفق منطلقات نزعم أنّها غير كلاسيكيّة. هذه المنطلقات هي الآتية:

1) لا نريد الفدراليّة طرحًا من فوق، بل مسارًا ينطلق من تحت. نتعمّد ألّا يكون بين حركتنا "أقطاب" أو "زعماء" ولا حتّى مشاريع زعماء. نحن ناشطون مقتنعون بفكرة نرى فيها خير بلادنا. سنسعى لتفسير الفكرة كما نفهمها لأكبر عدد ممكن من مواطنينا ولحشد الدعم لها بينهم، بدءًا بالعاملين الذهنيّين.

2) أمّا وأنّ معادلة حياد + فدراليّة تخدم كلّ اللبنانيّين، فالأداة التي نعمل على بنائها ينبغي أن تكون مفتوحة لكلّ مواطنينا أيضًا. المسلمون الّذين نفكّر فيهم، هم عوامهم، لا الزعماء. يهمّنا موقف زعماء المسلمين من الفدراليّة بقدر ما يهمّنا موقف زعماء المسيحيّين منها –أي أنّه لا يهمّنا إطلاقًا.

3) خلفيّة طرحنا الفدرالي هو انتماؤنا المزدوج للحظتين مركزيتين في تاريخ لبنان المعاصر: 14 آذار، و17 تشرين. في اللحظتين، طفت إلى السطح هويّة لبنانيّة جامعة لا تخطئها عين. نطرح الفدراليّة بهذه الخلفيّة، واستكمالًا لحركة اللبنانيّين المعترضة على النخب الوضيعة الحاكمة. في 14 آذار جاهر اللبنانيّون برفض الإحتلال السوري، وبطلب السيادة. في 17 تشرين، جاهروا برفضهم لمنظومة الفساد والنهب المنظّم للبلاد. كلّ هذا ضروري، بل حيوي. ولكن، لا يكفي أن نقول لا. بعد أن نقول لا لما لا نريد، ينبغي أن نوضح ما نريد. بمعنى آخر، نكمل حيث توقّفت 17 تشرين، وكاستمرار لها، لا كانحياز ضدّها، لأنّ من ضدّها، هو ضدّ شعب لبنان.

فدراليّون؟ أكيد. وقبل ذلك، حياديّون. وقبل ذلك أو أيّ شيء آخر، سياديّون. مفهومنا للعمل العام ينطلق من الإلتزام بالسيادة والحياد والفدراليّة، بهذا الترتيب. السياديّون حلفاؤنا، حتّى إذا لم يقتنعوا بالطرح الفدرالي. المتهاودون بالسيادة ليسوا كذلك، بغضّ النظر عن آرائهم السياسيّة الأخرى. الأمور عندنا بهذا الوضوح – لا مكان للرماديّة في هذه المسألة تحديدًا.

والحال أنّ لبنان اليوم دولة فاقدة السيادة تدور في فلك إيران، تمامًا كما كانت دول أوروبا الشرقيّة أجرامًا في فلك الاتحاد السوفياتي السابق. هل كان بإمكان النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقيّة أن يقرّر(مثلًا) الانفتاح على الغرب بمعزل عن إرادة موسكو؟ إن كان الجواب أن لا، وهو كذلك، فالأمر عينه صحيح على خطّ التبعيّة الذيليّة التي باتت تشدّ بيروت إلى طهران.

ماذا يعني ذلك عمليًّا؟ قبل كلّ شيء آخر، يعني أنّ الإصلاح ليس ممكنًا في لبنان قبل استعادة سيادتنا الوطنيّة. الإصلاح بالنتيجة ليس مجموعة قرارات تقنيّة نهتدي اليها، فتسير الأمور على ما يرام. الإصلاح يفترض قرارت سياسيّة كبرى كإعادة النظر بمؤسساتنا الدستوريّة وطرق إنتاج النخبة الحاكمة، حصر السلاح بيد الدولة، العودة الى علاقات طبيعيّة مع عمقنا الإقتصادي في الخليج العربي، ومع الديموقراطيّات الليبراليّة الغربيّة الصديقة. كما يفترض الإصلاح الإبتعاد عن الإستقطاب الطائفي في لبنان الذي لم يخدم مرّة سوى قوى المحيط الطامعة به والكارهة له أيضًا.

من يظنّ أنّ بالإمكان تحقيق هذا النوع من التحوّلات الكبرى في بلاد فاقدة لقرارها الوطني يعيش على كوكب آخر.

وعلى هذا الكوكب بالتحديد تتحرّك فئات ثلاث اليوم: 1) هناك فدراليّون بخلفيّة أقلويّة، بات واضحًا أنّ مسألة حزب اللّه لا تحرّكهم. الثابت عندهم كره مَرَضي للسنّة، ومفهومهم للفدراليّة ينطلق من حلف الاقليّات. من نافل القول إنّ مفهومنا للفدراليّة في موقع النقيض. وبوضوح أكثر: أن نقول إنّنا لسنا مقتنعين بالسنّوفوبيا، تحصيل حاصل. بالحقيقة، نحن نحتقرها. 2) ثمّة أيضًا ثوّار بخلفيّات "يسارو"–طائفيّة. أمّا وأنّ الخطاب السيادي اللبناني كان سائدًا تقليديًّا في الأوساط المسيحيّة، وأمّا وأنّ الرفاق فطروا على كراهيّة هذه الأوساط تحديدًا، فالمطالبة بالسيادة لا تعنيهم ولو قضى لبنان. 3) أخيرًا، هناك كوكبة من الوصوليّين التكنوقراط الّذين يقدّمون مع كلّ إطلالة جديدة أوراق اعتمادهم لأهل الحلّ والربط، حكّام لبنان الحقيقيّين. "الواقعيّة" التي ينادي بها هؤلاء هي الإسم الحركي للإذعان لإيران مقابل فتات مناصب في دولة متهالكة.

بوجه هذه الفئات الثلاث، وأيضًا ضدّها، الخطاب السيادي هو البوصلة. السيادة هي الأساس. من يخطئ هنا، يخطئ بكلّ شيء لاحق. لذلك، نكرّر: نحن مع السيادة، والحياد، والفدراليّة، بهذا الترتيب. ليطمئنّ أصدقاؤنا السياديّون، ولو لم يقتنعوا بالفدراليّة: أولويّتنا واضحة، والبوصلة لن تضيع.

من جهة ثانية، لسنا مستعجلين للوصول إلى السلطة. لن نضحّي بأفكارنا من أجلها. الأولويّة اليوم هي لبناء تنظيم لبناني سيادي محايد وفدرالي. لو أخذ بناء التنظيم سنوات، فليكن. ندخل الحلبة بتوقيتنا، وبعناوين واضحة. قابليّتنا للمساومة على هذه العناوين (السيادة والحياد والفدراليّة) معدومة. نعلم طبعًا أنّ الوقت ضاغط وأنّ الاستحقاقات داهمة. نعلم خصوصًا أنّ شعبنا يئنّ من وجع الأزمة الإقتصاديّة–الإجتماعيّة. نحن مع شعبنا، وفق إمكانيّاتنا، بالأفعال لا الأقوال فقط. ولأنّنا مع شعبنا، نفكّر بجذر الأزمة الحاليّة، وبعقد سياسي-إجتماعي بين مواطنين، من تحت، لا بتسويات عابرة بين زعامات، من فوق.

لماذا نحن فدراليّون (17/23): بخصوص مقولة إعطاء الطائف فرصة لأنّه لم يطبّق

غالبًا ما يقال لنا إنّنا نستعجل الطرح الفدرالي باعتبار أنّ اتّفاق الطائف لم يطبّق بعد. يدعو أصحاب هذا المنطق إلى تطبيق الطائف على أن يتمّ التفكير بتغيير النظام بعدها، لو كان ذلك ضروريًّا. للطائف حسنة نقرّ بها هي أنّه أوقف الحرب في لبنان. ولكن مشكلتنا مع منطق "تطبيق الطائف أوّلًا" ثلاثيّة الأبعاد:

أوّلًا، أي اتّفاق يمكن تجاهل تطبيقه لعقود وكأنّه لم يكن يحمل بداخله بذور فنائه. ما لم يطبّق إلى اليوم قد لا يطبّق أبدًا.

ثانيًا، اتّفاق الطائف لا ينصّ على حياد لبنان. ماذا يعني عمليًّا ألّا نكون على حياد؟ يعني ذلك حكمًا استتباع لبنان لسياسة المحاور الإقليميّة، أي أن يبقى لبنان اليوم تابعًا لإيران، كما كان بالامس تابعًا لسوريا، وقبلها محكومًا من منظّمة التحرير، وهكذا. بمعنى آخر، بغياب الحياد، يبقى لبنان عالقًا في وظيفة يطيب للإقليم حصره بها: ساحة حروب بالوساطة. هذه الوظيفة خرابنا وأساس المأساة في بلادنا. أيّ "حلّ" لا يبدأ بالحياد هو كلّ شيء إلّا حلًّا.

ثالثًا، الطائف هو إعادة ترتيب لنظام الحكم المركزي، لا إعادة تفكير فيه. وماذا تعني "الدولة المركزيّة" في لبنان؟ عمليًّا، متى نزعنا عنها أوراق توت تتغطّى بها، هي تقاطع بين زعماء طوائف مرتبطين بالخارج، وكارتيلات اقتصاديّة. بمجرّد أن تتأزّم العلاقة إمّا بين الزعماء (بسبب التنافس على كعكة السلطة)، أو بين محرّكيهم بالخارج (بسبب التنافس على زعامة الإقليم)، تصاب الدولة المركزيّة عندنا بالشلل، فيحرم اللبنانيّون من أبسط مقوّمات الحياة، كالحقّ في الكهرباء والماء والتعليم الرسمي، الخ. قد لا تمنع الفدراليّة الخلاف "من فوق" بين القيادات الكبرى، ولكنّها بالحدّ الأدنى تسحب الأمور الحياتيّة اليوميّة من قبضة الحكومة المركزيّة إلى الحكومات المنتخبة محليًّا، حيث قدرة الناخب على المتابعة والمحاسبة أكبر.

رابعًا، أكثر الإصلاحات "جذريّة" في اتّفاق الطائف هو زيادة مجلس شيوخ إلى مؤسساتنا. أوّلًا، سيؤدّي ذلك إلى استقطاب طائفي فوري بين مسيحي (أورثوذوكسي) ومحمّدي (درزي) يطالبان به. الأولّ سيقول إنّه أكثر عددًا من الدروز، وإنّ الرئاسات الأربع ينبغي أن تنقسم مناصفة بين المسيحيّين والمسلمين. أمّا وأن رئاسة الحكومة والمجلس للملسمين، فطبيعي أن تكون رئاسة مجلس الشيوخ للمسيحيّين، مع الرئاسة. الدرزي سيشهر بطاقة الدور التأسيسي التاريخي، والشعور المزمن بالهامشيّة، ثمّ تبدأ دورة شدّ حبال طائفيّة جديدة في لبنان. وكيفما حسمت الجولة، ماذا بعدها؟ لنقل إنّ رئيس مجلس الشيوخ صار أرثوذوكسيًّا. أيّ خلاف بينه وبين رئاسة مجلس الوزاء سيصير خلافا سنيًّا–أورثوذوكسيًّا (فكّر في الخلاف الدائم على صلاحيّات محافظ بيروت في مواجهة صلاحيّات رئيس بلديّتها). أو يصبح رئيس مجلس الشيوخ درزيًّا، فيصير أيّ خلاف بينه وبين رئيس الجمهوريّة صراعًا درزيًّا–مارونيًّا.

عذرًا، ولكنّنا لا نرى في كلّ ذلك ما هو جدير بالحماسة له.

لماذا نحن فدراليّون (18/23): الفدراليّة والخطّ اللبناني السيادي الجديد

يحتاج لبنان لعصب ظهّره مقاتلون لبنانيّون أشدّاء في خضم الأزمات. يُدعى اللّاعبون في هذه المنطقة من العالم حافظ الأسد والخميني وياسر عرفات وبشّار الأسد والخامنئي، وسواهم. هؤلاء لا يمارسون السياسة وفق قواعد القانون الدولي العام واتفاقيّات جنيف لحقوق الانسان. اختلفوا ويختلفون حول الكثير طبعًا، ولكنّ الجامع بينهم كلّهم هو الطمع بلبنان، واستسهال استخدامه ولو سالت دماء أبنائه نهرًا. لا اعتذار لأنّنا كلبنانيّين واجهنا هذا النوع من اللّاعبين، وبالعنف إذا لزم الأمر. للتذكير فقط: بلادنا منذ كانت في موقع المعتدى عليه في وسط داره. هل اجتاح لبنان مرّة بلادًا أخرى؟ هل اغتالت الأجهزة اللبنانيّة زعيمًا سوريًّا أو إيرانيًّا مثلًا، كما ذُبح بشير الجميّل أو حسن خالد أو رفيق الحريري أو عشرات القادة اللبنانيّين الآخرين، في عقر دارنا؟ الجواب أن لا طبعًا. ثمّة مسألة حيويّة أصابت فيها قوى كالكتائب والأحرار والقوّات في لبنان، عنينا الحساسيّة السياديّة العالية التي ميّزتها عن سواها. نحن استمرار طبيعي لهذه الناحية منها، ولا نريد لها أن تتغيّر. ونحن، أيضًا، نختلف عنها بما يلي:

1)بعد مئة عام من العيش معًا، صار الكثير من المسلمين لبنانيّين شعوريًّا، لا فقط تقنيًّا. هذا لا يعني أنّهم باتوا كذلك كلّهم. لا تزال الهويّات العابرة للحدود تحول دون استكمال تحوّل قسم منهم باتّجاه اللّبننة. ولكن قسمًا آخرًا صار لبنانيًّا فعلًا، وتحديدًا، سياديّاً وحياديًّا وفدراليًّا. أمّا وأنّ المشكلة ليست إيمانيّة بل سياسيّة، فمكان من يفكّر بالسياسة مثلنا معنا في لبنان الفدرالي، بغضّ النظر عن سرديّته الدينيّة. منذ لحظتنا التأسيسيّة الأولى، كان لبنان الفدرالي مفتوحًا لهم، وسيبقى كذلك، بدءًا –لم لا؟– برأس الهرم الحزبي.

2) تعاطى من سبقنا من السياديّين بتردّد مع مسألتي الحياد والفدراليّة. تطفو هذه المواضيع على السطح وقت الأزمات، ثمّ تختفي بسحر ساحر. ثمن هذا النوع من الخفّة كان غاليًا ... جدًّا. لا بدّ هنا من قطيعة مع الخفر في طرح المسألتين. استطرادًا، سيتعاطى لبنان الفدرالي مع الحياد والفدراليّة بصفتهما الوجه الآخر للمسألة السياديّة: زمن الرماديّة، والتردّد بطرح الخيارات الكبرى ينتهي معنا.

3) القوى السياديّة القديمة شخصانيّة وغير مؤسساتيّة. تتحلّق حول الزعيم–الطوطم، وتموت بموته. الكتلة الدستوريّة والكتلة الوطنيّة أوّل تجربتين حزبيتيّين في الجمهوريّة اللبنانيّة. ماذا بقي من الأولى بعد وفاة بشارة الخوري؟ ماذا بقي من الثانية بعد نهاية زعامة آل إدّه؟ ماذا بقي من الشهابيّة بعد فؤاد شهاب؟ ماذا بقي من الأحرار بعد وفاة الرئيس كميل شمعون، وكم بقي من الكتائب بعد رحيل بيار الجميّل؟ نفس الاسئلة صحيحة بالنسبة للقوى اللّاحقة المنبثقة من هذه الأحزاب. وتمامًا كما أنّ التعاطي المزاجي مع الطرح الحيادو–فدرالي خفّة على مستوى الخيارات، الشخصانيّة خفّة على مستوى بناء الحزب. ثمن الخفّة في هذه المسألة كان غاليًا بدوره. في لبنان الفدرالي، سيبقى رئيس الحزب في موقعه لولاية واحدة غير قابلة للتجديد، أو لولاية قابلة للتجديد مرّة واحدة، والسلام. استطرادًا: لا مكان في لبنان الفدرالي لإبن الزعيم أو لزوجته أو لصهره، وأساسًا لا مكان للزعيم نفسه. رأس الهرم موظّف لدى القاعدة الحزبيّة، تستبدله دوريًّا. هذا كلّ شيء.

4) لم تعطِ القوى السياديّة القديمة المسألة الإقتصاديّة–الإجتماعيّة الإهتمام الذي تستحقّ. هذا خطأ لأنّ الناس لا تأكل وتشرب سيادة. المسألة هنا أكثر من رفع شعار، أو توزيع إعاشة. المسألة أن يكون ثمّة خطّة جديّة لتوسيع الطبقة الوسطى، وتوزيع الثروة، وتحقيق التنمية في المناطق الطرفيّة الأكثر فقرًا. يكاد بعض أهلنا يصابون بعارض صحّي لمجرّد أن نذكر أمامهم أمورًا كالعدالة الإجتماعيّة لأنّها تستحضر عندهم اليسار، ولأنّ اليسار يستحضر بدوره صورًا مؤلمة من الحرب. نتفهّم حساسيّة هذه المسألة. ومع ذلك، لبنان الفدرالي سيكون منحازًا بوضوح ومن دون عقد إلى الفئات الإجتماعيّة التي سحقتها سياسات مَركزة الثروة والفساد المعمّم. عندما نتخيّل نظامًا ضريبيًّا جديدًا، مثلًا، نراه تصاعديًّا وبحسب الدخل. لنقل، اختصارًا، أنّ للبنان الفدرالي وعيًا إجتماعيًّا حادًّا، وأنّ زمن الخلط بين العدالة الاجتماعيّة والكوفيّة الفلسطينيّة انتهى.

5) السياديّون القدامى مفرطون عمومًا بالمحافظة الإجتماعيّة. لبنان الفدرالي ليس كذلك. في المسألة الجنسيّة، مثلا، ننطلق من مسلّمة أنّنا لن نكون أحرارًا كمجتمع في خياراتنا السياسيّة، إن لم نكن أحرارًا كأفراد في حياتنا الجنسيّة. الهوموفوبيا لا مكان لها بيننا. ولا للذكوريّة مكان أيضًا. التديّن خيار شخصي للمحازبين كأفراد، لا علاقة للحزب كمنظّمة به. وعندما سنؤدّي قسم الانتماء، سنحلف "بشرفي" لا "باللّه"، كي لا نحول بيننا وبين أيّ ملحد أو مشكّك يشاركنا أفكارنا.

باختصار: القوى السياديّة القديمة دافعت عن لبنان. لولاها ما بقيت البلاد. لبنان الفدرالي يريد أن يدافع عنها ويطوّرها أيضًا. نحن، كمن سبقنا من قوى الخطّ اللبناني، سياديّون، بمعنى أنّ كلّ شيء يبدأ عندنا بالسيادة. ولكنّ السيادة ليست كلّ شيء. نريد بلادًا قويّة في منطقة لا تفهم أو تحترم غير القوّة. ولكنّنا لا نريد مجتمعًا قاسيًا على الضعيف فيه، سواء كان ذلك لفقره، أو لقناعاته الدينيّة (أو اللادينيّة)، أو لجندره، أو لاتّجاهاته الجنسيّة. باختصار: نحن مع ثنائيّة وطن قوي/مجتمع رحيم. وباختصار أيضًا: نحن لبنانيّون، وفدراليّون، وليبراليّون بدون تحفّظ.

لماذا نحن فدراليّون (19/23): بخصوص أنّ المشكلة بالنظام لا فقط بالمنظومة

يَأخذ علينا البعض طرحنا الجذري بحجّة أنّ المشكلة بالمنظومة، لا بالنظام. بمعنى آخر: يحاجج البعض أنّ السياسيّين سيّئون، ولكنّ النّظام اللبناني مقبول عمومًا، أو لعلّه يحتاج لتعديلات معيّنة، من دون ضرورة لتغييره بالعمق. نختلف مع هذا المنطق للأسباب التالية:

1) الإنهيار الإقتصادي الذي نعيشه منذ العام 2019 ليس المأساة الوحيدة أو الأولى في تاريخنا المعاصر. من حرب 1958، إلى اتفاق القاهرة عام 1969، إلى اتفاق ملكارت عام 1973، إلى اندلاع الحرب عام 1975، إلى تهجير الجبل عام 1983، فحروب أمل–حزب اللّه، ثمّ حروب التحرير والإلغاء نهاية الثمانينات، ثمّ إطباق الإحتلال السوري علينا من العام 1990 حتى العام 2005، ثمّ استشهاد الرئيس رفيق الحريري والمرحلة الرهيبة المستمرّة منذ العام 2005، تاريخنا مأساة، عقب مأساة، تلي مأساة. ما الذي يجب أن يحصل كي يقتنع البعض أنّ النظام القائم فشل بتأمين الأمن والإستقرار للّبنانيّين؟ إجتياح من كوكب آخر، أم أن نُفنى عن بكرة أبينا؟ الحاجة للتغيير تعكس هول الأزمات المتناسلة التي نعيش. أمّا وأنّها وجوديّة، وتهدّد وجودنا كشعب في هذه المنطقة من العالم، فلا يمكن لردّنا أن يكون مجرّد جراحة تجميليّة طفيفة. جذريّة الردّ من هول المأساة.

2) المنظومة صنعت النظام، وهي بدورها صنيعته. ثمّة علاقة سبب/نتيجة بين النّظام والمنظومة، ومن يريد تغيير النتيجة ينبغي له أن يبدأ بسببها المؤسّس. ربّما يكون الرئيس الراحل الياس سركيس آخر مسؤول كبير استلم الحكم في لبنان من دون أن تحوم حوله شبهات الفساد أو العمالة للخارج أو التحريض الطائفي أو كلّ ما سبق مجتمعًا. سركيس انتُخب رئيسًا عام 1976 ونحن في العام 2021. أيعقل أنّنا ابتلينا بسيل يلي سيلًا آخرًا من السياسيّين السيّئين بدون انقطاع لمدّة 45 عامًا متواصلًا، بمحض المصادفة؟ السياسيّون هؤلاء لم يهبطوا علينا بالمظلّة بل صنعتهم آليّات إنتاج النخب الحاكمة في النظام اللبناني. من يريد نخبًا مختلفة، فعليه باجتراح آليّات مختلفة بدورها. من يريد نخبًا مختلفةً جذريًّا (فكريًّا وخصوصًا أخلاقيًّا)، فعليه بآليّات مختلفة جذريًّا أيضًا. الأمور بهذا الوضوح.

3) النظام اللبناني لم يكن يومًا ديكتاتوريّا على طريقة الأنظمة السائدة في العالم العربي، صحيح، ولكنّه يوزّع السلطة بين نخب حاكمة تتداولها من فوق، بينما نتفرّج نحن كلبنانيّين على ما يقرّره "أسيادنا"، من دون قدرة على التأثير بمجريات الأمور. هذه مصيبة. أمّا وأنّ "أسيادنا" خدم القوى الإقليميّة المختلفة المتصارعة فوق أرضنا، فالمصيبة أعظم. نريد حلًّا يأخذ السلطة من فوق ويقرّبها منّا، نحن اللبنانيّين العاديّين مواطني الجمهوريّة اللبنانيّة. بمعنى آخر: نريد ضرب مركزيّة السلطة في العاصمة، كمقدّمة لضرب النظام الأوليغارشي اللبناني نفسه. وتحصيل الحاصل طبعًا أنّنا نريد القطيعة الجذريّة مع وظيفة لبنان كساحة لتصريف النفوذ الإقليمي والصراعات على زعامة المنطقة. لهذا النظام الجديد إسم واضح: النظام الحيادو–فدرالي.

باختصار، المشكلة بالنظام والمنظومة معًا. احتقارنا للثانية لا يوازيه سوى رفضنا للأوّل، وحربنا على الإثنين معًا.

لماذا نحن فدراليّون (20/23): بخصوص أنّ الوطنيّة اللبنانيّة بيت بمنازل كثيرة

تذهب بعض النظريّات إلى أنّ اللّبنانيّن شعوب أو قوميّات أو حضارات مختلفة موجودة على أرض واحدة. لكلّ هذه المجموعات سرديّتها ومصالحها المختلفة عن الأخرى. الحلّ، تاليًا هو باتّحاد كونفدرالي، أو بطيّ صفحة لبنان الكبير والإنفصال التامّ.

تنحو نظريّات أخرى إلى نفي وجود هويّات طائفيّة متباينة في لبنان، أو للمراهنة على زوالها لمصلحة انتماءات أخرى "أسمى" طبقيّة أو وطنيّة لبنانيّة أو قوميّة أو مزيج مّما سبق. الحلّ، تاليًا، بالعلمنة أو بالغاء الطائفيّة السياسيّة أو بسائر النظريّات الأخرى التي أوضحنا موقفنا منها في ما سبق.

نزعم بالمقابل ما يأتي:

1) الهويّات المجتمعيّة متحرّكة ومعقّدة. عندما نشأ لبنان، رفضه المسلمون عمومًا. كان ذلك قبل مئة عام. لا يعني هذا اليوم أنّ كلّ المسلمين ضدّ لبنان كما كان أجدادهم. للتذكير: في خلال عاميّة 17 تشرين، تسربلت طرابلس بالأعلام اللبنانيّة بطريقة عفويّة. لم يجبر أحدٌ أهاليها على رفع أعلام لبنان، أو إضاءة الساحات بألوان العلم اللبناني. كتلة الزعامة السنيّة الأولى في لبنان تدعى "لبنان أوّلًا". خطاب الزعيم الطرابلسي السنّي الجنرال أشرف ريفي شديد الوضوح في سياديّته ولبنانيّته. بالحقيقة، رئيس الوزراء اللبناني الراحل شفيق الوزّان كان وطنيًّا لبنانيًّا غيورًا، وكذلك قبله الرئيس سامي الصلح. بعد مئة عام على قيام لبنان، بات قسم معتبر من المسلمين متماهيًا مع الكيان اللبناني. نرفض التشكيك بوطنيّتهم، لا من منطلق "المسايرة" على الطريقة اللبنانيّة، بل لأنّنا نصدقّهم عندنا يقولون بلبنانيّتهم.

2) بالمقابل، الهويّة اللبنانيّة الجامعة لا تلغي التمايزات بين الطوائف. فكّر، مثلًا، في حرب ناغورنو-كاراباخ بين الأذريّين والأرمن: هل يتفاعل اللبنانيّون-الموارنة أو اللبنانيّون-الدروز، مثلًا، كما يتفاعل معها اللبنانيّون-الأرمن؟ فكّر في القدس والمسجد الأقصى: هل يتفاعل اللبنانيون-المسيحيّون مع ما يحصل هناك كما يتفاعل اللبنانيّون-المسلمون عمومًا؟ الجواب أن لا، ببساطة شديدة. لا حياء في الأمر أو خجل. علاقة الكنديّين-الفرنكوفون في الكيبيك مع فرنسا واللغة الفرنسيّة بدورها غير علاقة الكنديّين-الأنغلوفون معها. الأمر عينه صحيح، مثلًا، بالنسبة إلى السويسريّين-الفرنكوفون، مقارنةً مع السويسريّين-الجرمانوفون، وهكذا. واحدة من المشاكل التاريخيّة للعقل السياسي في المحيط العربو–إسلامي رفضه الطوائف بحجّة الحفاظ على وحدانيّة الأمّة. ولكن هذه الوحدانيّة المفترضة وهمٌ لم يعِش يومًا سوى في مخيّلة أصحابه. المجتمعات دومًا تعدديّة؛ أمّا المجتمعات الحديثة، فهي تعدديّة بعد أكثر بحكم العولمة وموجات الهجرة والإختلاط السكّاني والمؤثرات الثقافيّة العابرة للحدود.

ما خلاصة كلّ ما سبق؟ هي الآتية: 1) نعم، نحن لبنانيّون، باستثناء من تماهى صراحةً مع عقائد أنتي-لبنانيّة، كأنصار الحزب السوري القومي الإجتماعي، أو أنصار حزب التحرير، أو أنصار الوليّ الفقيه. 2) هذا الإنتماء اللّبناني الجامع، لا يلغي تمايزات طوائفيّة حقيقيّة بين اللبنانيّين. ولا هذه التمايزات بدورها تلغي الإنتماء اللّبناني الجامع. هويّاتنا مركبّة، والوطنيّة اللبنانيّة بيتٌ بمنازل كثيرة. لسنا المجتمع التعدّدي الوحيد في العالم، ومشاكلنا ليست بدون سوابق في التاريخ. الحلّ لإدارة المجتمعات التعدديّة بات معروفًا وشديد الوضوح: شكل من أشكال اللامركزيّة السياسيّة والإداريّة والماليّة، أي شكل من أشكال الفدراليّة.

لماذا نحن فدراليّون (21/23): بخصوص المنازلة مع المنظومة في المناطق: الفدراليّة لفضح كذبة

لنفكّر بعاصمتنا الثانية، طرابلس. عندها المرفأ والمصفاة والمطار القريب والمعرض والمنطقة الاقتصاديّة، أي عندها كلّ ما يلزم لتكون نمرًا إقتصاديًّا صغيرًا على ضفاف المتوسّط، ومع ذلك، هي من أفقر مدنه، إن لم تكن أفقرها على الإطلاق. كيف يبرّر زعماء طرابلس الأمر لناخبيهم؟ ببساطة، عبر رمي المسؤوليّة على زعماء الطوائف الأخرى. الأمر عينه صحيح بالنسبة إلى زعماء هذه الطوائف بدورهم. هو منطق "ما خلّونا نشتغل" الذي يكاد يكون مضحكًا، لولا أنّ نتائجه مأساويّة علينا. يرفع هذا المنطق المسؤوليّة عن كاهل النخبة الوضيعة الحاكمة، من جهة، ويسعّر الإستقطاب الطوائفي إذ تقتنع الجماعات أنّ سبب بؤسها جماعات أخرى. وفق هذه المعادلة، يربح السياسيّون ربحًا خالصًا، تمامًا كما أنّ خسارة المواطنين خالصةً بدورها.

تقدّم الفدراليّة تصوّرًا مختلفًا للحكم. تختصّ الحكومة المركزيّة وحسب بالدفاع والشؤون الخارجيّة والنقديّة. كلّ ما بقي من اختصاص الحكومات المحليّة، تحديدًا لجهة ما يهمّ المواطنين في حياتهم اليوميّة. يعني ذلك ما يلي: 1) أموال الضرائب التي تجبى محليّاً، يُنفَق جلّها محليًّا أيضًا. سيضع هذا الحكومات المحليّة أمام مسؤوليّة الحوكمة الرشيدة، من دون إمكانيّة التذرّع بالآخرين لو فشلت. إن شعر المواطن بالجبل، مثلًا، أنّ الضرائب تُؤخذ من جيبه مباشرةً، من دون أن تعطيه حكومة الجبل المحليّة بالمقابل فرص عمل وكهرباء وماء، فمن الصعب أن يحافظ على ولائه للقوى المحليّة التي خذلته. 2) قدرة المواطن على المحاسبة أكبر لأنّ التصويت محلّي لحكومات محليّة بدورها. ما قدرة مواطن سنّي في طرابلس، مثلًا، على التأثير في قرار وزير تريبة شيعي من الجنوب، تابع لحركة أمل أو حزب الله؟ لا شيء، بالحقيقة. بالمقابل، قدرة ناخب من طرابلس على التأثير على حكومة محليّة في طرابلس أكبر بكثير. الأمر عينه صحيح بالنسبة إلى كلّ المناطق والطوائف الأخرى.

باختصار: ما تفعله الفدراليّة عبر حكومات المناطق هو سحب قدرة النخب على رمي مسؤوليّة فشلها على بعضها البعض، مع تعزيز قدرة الناخب على محاسبتها، لو فشلت. ليست المسألة محاججة نظريّة فقط. لننظر إلى الدول الفدراليّة في العالم، وأقربها جغرافيًّا إلينا الإمارات. بكلّ صراحة ووضوح: أحوالها تبرّر تفاؤلنا بالنظام الفدرالي، وأملنا فيه. الإمبيريقيا دومًا أقوى من إسقطات الإيديولوجيا وغوغائها.

لماذا نحن فدراليّون (22/23): بخصوص مسألة الاقليّات في المناطق اللبنانيّة

مسألة الاقليّات الطائفيّة في مناطق لبنانيّة ذات صبغة غالبة (مثلًا، شيعة كسروان–جبيل، سنّة العرقوب، مسيحيّو الأطراف في القبيّات أو دبل أو عين إبل) تُطرح غالبًا، وعن خطأ، بصفتها مقتلًا للفدراليّة. غالبًا ما نواجَه بأسئلة من نوع: "ماذا ستفعلون بشيعة جبيل؟" أو "إلى أين يذهب مسيحيّو عين إبل لو صار لبنان فدراليًّا؟". بالحقيقة، أجوبتنا بسيطة جدًّا: لن "نفعل" شيئًا بأحد، ولن "تذهب" أيّ أقليّة إلى أيّ مكان. كلّ سكّان الدولة الفدرالية مواطنون فيها، ولا أحد يستطيع أن يجبر مواطنًا على الإقامة حيث لا يريد، أو العكس. الفدراليّة لا تستبطن التطهير العرقي بخلاف ما يظنّ البعض عن جهل، أو يقوله البعض الآخر عن سوء نيّة. بالحقيقة، للأقليّات الطائفيّة في الدولة الفدراليّة ضمانات عديدة منها:

1) الدستور الفدرالي فوق دستور الولايات. أمّا وأنّ الدستور يضمن الحقوق الأساسيّة (حريّة التعبير أو المعتقد، مثلًا)، فلا يمكن لدستور الولايات أن يهدّدها. يعني لا يمكن دستوريًّا لحكومة جبيل مثلًا أن تمنع الشيعة من بناء حسينيّات، أو لحكومة عكّار أن تمنع القبيّات من ترميم الكنائس، الخ. 2) التمثيل السياسي مكفول في السلطة التشريعيّة الفدراليّة للجميع، بغضّ النظر عن التوزّع الجغرافي. يعني لنقل أنّ للموارنة 34 نائبًا في المجلس النيابي الفدرالي. يصوّت كلّ الموارنة لهم بغضّ النظر عن توزيعهم الجغرافي. بهذا لا فرق بين ماروني في القبيّات أو رميش وآخر في كسروان أو المتن. الأمر صحيح بالنسبة إلى الطوائف الأخرى. 3) صلاحيّة البلديّات واسعة. يعطيها هذا مجالًا واسعًا لإدارة أمورها الذاتيّة من دون أن تتمكن الحكومات المحليّة من الإملاء عليها أمورًا ليست من اختصاص هذه الحكومات. يعني لدرجة بعيدة، ستُحكم القبيّات والقليعة ودير الأحمر، إلخ، من بلديّاتها المنتخبة ديموقراطيًّا. 4) لكلّ لبناني الحقّ باتّباع الأحوال الشخصيّة الخاصّة بطائفته، أو بقانون علماني للأحوال الشخصيّة، بغضّ النظر عن مكان إقامته، أي سواء كان في الاطراف أو المركز. 5) يمكن خلق وسيط الجمهوريّة أي "الأمبودزمان" للتدقيق في شكاوى من يشعر بافتئات على حقّه ومناصرته إن لزم الامر. هذه الوظيفة شائعة في الدول الفدراليّة حيث يتحرّك الأمبودزمان محليًّا كممثّل للسلطة المركزيّة لمناصرة مواطنين يتظلّمون من أعمال سلطات حكوميّة محليّة أو شركات أو بلديّات، ويسعى لحلّها عبر التوسط بين المتنازعين.

كلّ ما سبق ضمانات قانونيّة، ولكن ثمّة ضمانة إضافيّة لعلّها الأهمّ: على افتراض حيّدنا لبنان (من جهة)، وحسّنّا قدرة المواطن على المحاسبة من خلال توزيع السلطة في المناطق بدل حصرها بالعاصمة (من جهة ثانية)، وتمكنّا من تحفيز الإقتصادات المحليّة بشكل أفضل من خلال الإدارة الذاتية للأمور التنمويّة والإقتصاديّة (من جهة ثالثة)، يمكن أن ينشأ بعد عقد أو عقدين مجتمع الرخاء والإستقرار. المسألة الطائفيّة تفقد الكثير من حدّتها بمجرّد أن نرفع التدخلّات الخارجيّة عن البلد، ونحسّن الإقتصاد ونوعيّة النخبة الحاكمة. لن يشنّ أحد حربًا لمنع أحد آخر من احتساء الجعة في دير الأحمر... يعني يمكن أن نتخيّل، مع الوقت، نوعًا من استرخاء في العلاقات بين الطوائف بدل الإستقطاب الحالي. قد تكون هذه الضمانة الحقيقيّة، وللجميع.

لماذا نحن فدراليّون (23/23): من أجل القطيعة مع الإحتفاليّة بالحرب اللبنانيّة

مع أنّ الفكرة الفدراليّة طُرحت بقوّة في خلال الحرب –وهذا بالمناسبة، من أسباب النقزة التي لا تزال الفدراليّة تثيرها في النفوس– إلّا أنّنا ننفر بشدّة من الإحتفاليّة الدائمة برموز الحرب الأهليّة ومعاركها على مواقع التواصل الإجتماعي في لبنان. نحترم بعمق، طبعًا، تضحيات الّذين قضوا دفاعًا عن فكرة آمنوا بها. ومع ذلك، يؤسفنا أن تتحوّل محطّات الحرب دوريًا إلى مناسبات لاستعادة أمجاد الماضي التليد المتخيّل لأنصار الزعامات المختلفة.

في مواجهة هذا النوع من الطقوس، وأيضًا، ضدّها بالمطلق، نقول ما يلي: 1) لا يوجد زعيم واحد من زعماء الحرب يجمع عليه اللبنانيّون كرمز لهم. قدّيس فئة من اللبنانيّين شيطان فئة أخرى، والعكس. تاليًا، الإحتفاليّة المستمرّة بالحرب وبأبطالها سبب من أسباب استدامة الإستقطاب والفرقة بين اللبنانيّين، التي تخدم موضوعيًّا مصلحة السلاح غير الشرعي في لبنان ومحرّكيه الإقليميّين. 2) الإحتفاليّة برموز الحرب هي تبرير لاستمراريّة أبنائهم من بعدهم، أي لمنطق العائليّة السياسيّة التقليديّة في لبنان. من يريد الخلاص من هذه الدوّامة، ينبغي له الخلاص أيضًا من عبادة القادة الراحلين. 3) تستعمل أحزاب مختلفة محطّات الماضي للتغطية على حقيقة أن لا حلّ عندها لمشاكل الحاضر. هذا مؤسف.

تاليًا، نتعهّد كفدراليّين بألّا تقع مواقعنا الإلكترونيّة ولا منشوراتنا بفخّ هذا النوع من الإحتفاليّات. الحرب انتهت، والماضي مضى، وأنظارنا الى الأمام. نقطة، انتهى.

1. الأزمة في لبنان أزمة نظام لا أزمة منظومة وحسب. أثبتت التجربة اللبنانيّة أنّ الحكم المركزي فشل بإدارة التعدديّة المجتمعيّة، وحماية السيادة الوطنيّة، ومنع الاقتتال الأهلي، فلماذا التمسّك به؟ مصلحة الإنسان هي الأساس، لا النصوص الجامدة أو الإيديولوجيّات الخشبيّة. ولو عجز نظام سياسي – دستوري عن تحقيق هذه المصلحة، فلا بدّ من تغييره.

2. التمسّك بنظام اتّفاق الطائف بحجّة أنّه لم يُعطَ إلى اليوم فرصة التطبيق غير مقنع، وذلك لأسباب عديدة منها: أوّلًا، أيّ اتّفاق يمكن تجاهل تطبيقه لعقود كأنّه لم يكن يحمل بداخله بذور فنائه. ما لم يُطبَّق إلى اليوم قد لا يطبّق أبدًا. ثانيًا، اتّفاق الطائف لا ينصّ على حياد لبنان؛ والحياد شرط خلاصنا الشارط. ثالثًا، أكثر الاصلاحات "جذريّة" في اتّفاق الطائف هي زيادة مجلس شيوخ إلى مؤسّساتنا، ولن يؤدّي ذلك إلّا إلى تعزيز التخبّط في الصلاحيّات الدستوريّة بينها. نسجّل للطائف أنّه أنهى الحرب اللبنانيّة. ولكنّه بالنتيجة ليس سوى تعديل على صيغة 1943، فيما المطلوب إعادة النظر بجذرها.

3. الطوائف اللبنانيّة حقائق مجتمعيّة ليست سيّئة أو جيّدة بذاتها. هي معطى موضوعي لن يختفي بسحر ساحر. تاليًا، هويّاتنا كلبنانيّين مركّبة: نحن موارنة – لبنانيّون، أو سنّة – لبنانيّون، أو دروز – لبنانيّون، إلخ، كما يعيش سوانا كأفريقيّين – أميركيّين، أو آسيويّين – أميركيّين في الولايات المتّحدة؛ أو فرنكوفون – كنديّين في كندا، مثلًا. ينبغي تغيير نظامنا ليتلاءم مع مجتمعنا، لا العكس. شعار "إلغاء الطائفيّة السياسيّة" واهم بالحدّ الأفضل، ويسعى وراء الغلبة والقهر بالحدّ الأسوأ.

4. هويّة الانسان جزء من شخصيّته عزيز عليه. لا يمكن لكُرديّ في العراق مثلًا أن يفرح بسياسات التعريب. ولا يقبل مسيحي قبطي في مصر الإسلام دينًا للدولة إلّا على مضض. كما لن يصفّق مسلم في الصين لسياسات الحزب الشيوعي الصيني الذي يسعى إلى إعادة تشكيل هويّة الصينيّين المسلمين وفق ما يراه هو مناسبًا.

5. أساسًا، لا حاجة لإلغاء الهوية الطائفيّة للوصول إلى دولة القانون. كندا وبلجيكا دولتان علمانيّتان وعصريّتان تحتويان على مكوّنات طائفيّة تشكّلهما، وهما دولتا قانون في الوقت عينه. لقد حافظ البَلَدان على هويّات مكوّناتهما المجتمعيّة ورسما حدود الولايات الفدراليّة الجغرافيّة على أساس الهويّات الطائفيّة والقوميّة؛ حتّى الأحزاب في بلجيكا طائفيّة بامتياز، ومع ذلك يسود القانون في هذه الدولة الفدراليّة.

6. بعض فوائد الفدراليّة: تحرير العلاقات بين الطوائف من ضغط التحوّلات الديموغرافيّة، وتاليًا، التخفيف من التوتّر والاحتقان بينها؛ فصل الحاجات اليوميّة للمواطنين (التي تديرها الحكومات المحليّة في الولايات الفدراليّة)، عن الأزمات السياسيّة الكبرى (في المركز)؛ السماح للتعدديّة بالتعبير عن نفسها بشكل طبيعي (مثلًا، يمكن السماح بالزواج المدني في بعض المناطق، دون سواها، حسب ما يقرّره الناخبون المحليّون عبر البرلمانات المحليّة)؛ تقوية قدرة الناخبين على محاسبة النخبة بفضل انتقال السلطة في الشؤون المعيشيّة من المركز إلى الولايات الفدراليّة؛ صرف أموال الضرائب حيث تُجبى ما يقلّص التهرّب الضريبي، ويعزّز القدرة على تلبية الحاجات المحليّة بسرعة ومن دون العودة إلى المركز. وبهذا لن تعود المناطق الفدراليّة بحاجة لانتظار المشاريع الآتية من السلطة المركزيّة لتنفَّذ عندها.

7. الفدراليّة نقيض التقسيم ولا تتعارض مع وحدة لبنان. ليس صدفة أن تتبنّى المجتمعات التعدديّة المستقرّة في العالم الفدراليّة؛ وليس صدفة أيضًا أن يكون سعي الأقليّات للانفصال هو البديل عن الرفض الأكثري للفدراليّة (كما كان الحال في الهند/باكستان، مثلًا؛ أو في السودان/جنوب السودان). كما لا تستبطن الفدراليّة أيّ دعوة للتطهير العرقي. حقوق الأقليّات الطائفيّة في المناطق المختلفة مضمونة بالدستور، وكلّ لبناني مواطن على أراضي الجمهوريّة يتساوى بالحقوق والواجبات مع سائر مواطنيه أينما وجدوا.

8. الفدراليّة لا تفيد مكوّن لبناني، دون الآخر، وهي تخدم نموّ طرابلس وعكّار وبعلبك – الهرمل مثلًا، أكثير بكثير من النظام المركزي. أهل هذه المناطق يستفيدون من الفدراليّة مثل سواهم، وربّما أكثر.

9. لا تناقض بين الفدرالية والعلمنة (كندا وبلجيكا وسويسرا خير دليل على ذلك). الفدراليّة والعلمنة يتكاملان ولسنا بحاجة إلى الاختيار بينهما.

10. يعطي النظام الفدرالي ضمانات دستوريّة واسعة للوحدات المحليّة، كون الصلاحيّات الممنوحة لها مكرّسة بالدستور الفدرالي الذي لا يمكن تعديله بسهولة، بل يحتاج إلى أكثريّة موصوفة لذلك، وهذا صعب المنال. فلا يمكن مثلًا للسلطة المركزيّة بظلّ النظام الفدرالي تعديل هذه الصلاحيّات على هواها. بالمقابل، يبقى المركز صاحب القرار في نظام اللامركزيّة الإداريّة، ويمكن له تغيير صلاحيّات المناطق كما يرتئيه. بالاضافة إلى ذلك، تنظّم القوانين اللامركزيّة الادرايّة، لا الدستور، ما يجعلها غير مستقرّة، ومعرّضة للتعديل وفق أهواء الغالبيّات النيابيّة المتقلّبة.

11. التوتّرات الطائفيّة، أو الاقتصاديّة – الاجتماعيّة، حقيقيّة في لبنان، ولكنّها لا تكفي بذاتها للتسبّب بحروبنا الأهليّة. هذه تقع بسبب تدخّل قوى الإقليم بشؤوننا الداخليّة. ولمنع هذه التدخّلات المتكرّرة، الحياد مصلحة لبنانيّة خالصة. مشروعنا عمليًّا حيادو – اتّحادي.

12. عقد مؤتمر تأسيسي ضروري للانتقال إلى النظام الحيادو – اتّحادي. ولكنّنا نرفض عقده والتفاوض على النظام الجديد تحت وطأة السلاح غير الشرعي. تاليًا، الأولويّة حاليًّا هي لاستعادة السيادة الوطنية وحصر السلاح بيد الجيش اللبناني والقوى الأمنيّة اللبنانيّة، على أن يلي ذلك عقد مؤتمر تأسيسي للنظام اللبناني. السياسة موازين قوى؛ وموازين القوى ميّالة للفريق المسلّح الذي سوف يفرض إرادته على الآخرين عنوة لو عقد المؤتمر التأسيسي اليوم. إلّا أنّ ذلك لا يمنعنا من التفكير بنظام سياسي جديد للبنان، وتفسيره لأكبر عدد ممكن من مواطنينا، وبناء قوّة سياسيّة جديدة تدعو إليه. إذًا، السيادة أوّلًا، والنظام الحيادو-اتّحادي ثانيًا.

13. ما بقي السلاح غير الشرعي مصوّبًا إلى رؤوسنا، خلافنا الأساس معه. كسياديّين فدراليّين، نحن مستعدّون للتعاون مع كلّ سيادي بغضّ النظر عن موقفه من الفدراليّة. وبخلاف ما يتوهّمه البعض، حزب الله لا يريد الفدراليّة. هو يسيطر على كلّ لبنان بحكم النظام المركزي القائم، فلماذا يسعى إلى الفدراليّة؟ لو أرادها، لطرحها ممهورة بالحياد، إلّا أنّ مشروعه نقيض الفكرتين.